أحصائية باعداد القوانين والتشريعات
قوانين : 409 (ق)
-
مواثيق واتفاقيات : 20 (ق)
-
لوائح وقرارات : 374 (ق)

الجوانب القانونية لنشر صور المشتبه بهم قبل المحاكمة

المحرر منذ 15 ساعة 24
الجوانب القانونية لنشر صور المشتبه بهم قبل المحاكمة

 

يحمي القانون الدولي مبدأ قرينة البراءة والحق في الخصوصية إلى جانب حرية التعبير. أكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 على أن “كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئًا حتى تثبت إدانته قانونًا” . كما ينص الإعلان ذاته (في المادة 12) على حماية خصوصية الأفراد وسمعتهم من أي تدخل أو تشهير تعسفي. وقد جاء العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (ICCPR) لعام 1966 ليُكرِّس هذه المبادئ أيضًا، فتنص الفقرة 2 من المادة 14 على حق كل متهم بأن يفترض براءته حتى تثبت إدانته بصورة قانونية . كذلك تؤكد المادة 17 من العهد حق الفرد في عدم التعرض لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو انتهاك لكرامته وسمعته. وبالمثل، كرست الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان (ECHR) لعام 1950 حق المحاكمة العادلة وافتراض البراءة (المادة 6(2))، وحق احترام الحياة الخاصة (المادة 8)، وحرية التعبير (المادة 10). تجيز هذه الاتفاقية والتعهدات الدولية عمومًا فرض قيود مشروعة على حرية النشر في حالات محددة، من بينها حماية حقوق الآخرين وضمان نزاهة القضاء. فعلى سبيل المثال، تنص الفقرة 2 من المادة 10 في ECHR على أن حرية التعبير قد تخضع لقيود يفرضها القانون لصون سمعة الآخرين أو ضمان سلطة القضاء وحياديته. وقد اعتمد الاتحاد الأوروبي أيضًا توجيهًا خاصًا (التوجيه 2016/343) لتعزيز قرينة البراءة، يلزم السلطات بعدم تقديم المشتبه بهم إعلاميًا كمدانين قبل صدور حكم قضائي، مع استثناءات محدودة جدًا تتعلق بالسلامة العامة أو نداء المساعدة العامة .

حرية الصحافة وحق الجمهور مقابل الخصوصية وقرينة البراءة

هناك توازن دقيق بين حرية الصحافة وحق الجمهور في المعرفة من جهة، وحق المتهم في الخصوصية وافتراض البراءة من جهة أخرى. تُمكِّن حرية الإعلام من مراقبة عمل السلطات وكشف الجرائم وإبلاغ الجمهور، إلا أن التغطية الإعلامية المبالغة قد تؤدي إلى محاكمة المتهم إعلاميًا قبل المحكمة. يؤكد القانون الدولي أن الصحافة يجب ألا تتبنى نهجًا يقوّض قرينة البراءة. فمثلاً، صرحت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بضرورة امتناع السلطات العامة عن إطلاق تصريحات تلمح إلى ذنب المتهم قبل المحاكمة، وعلى وسائل الإعلام تجنّب التغطية الإخبارية التي تقوّض افتراض البراءة . وقد شددت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في عدة أحكام على أهمية الموازنة بين حق الإعلام في نقل المعلومات وبين حق المتهم في محاكمة عادلة . ففي قضية صنداي تايمز ضد المملكة المتحدة (1979) أقرت المحكمة أنه يمكن فرض قيود محدودة على النشر إذا كانت ضرورية لحماية نزاهة القضاء وحقوق المتهمين، بشرط أن تكون تلك القيود متناسبة ومبررة .

من الجانب الآخر، يمكن للإعلام المفرط أن يضر بسير العدالة. إذ تظهر دراسات أن عرض صور المشتبه بهم مكبلي الأيدي أو أثناء اعتقالهم يجعل الجمهور يميل إلى افتراض الذنب قبل صدور حكم قضائي . وكثيرًا ما تقع وسائل الإعلام – سعيًا وراء السبق الصحفي والعناوين المثيرة – في فخ تقديم المشتبه به وكأنه مدان، عبر عناوين منحازة أو نشر أدلة وظروف القضية خارج سياقها القضائي . هذه الممارسات تخلق رأيًا عامًا مسبقًا ضد المشتبه به، مما يؤثر على المحلفين والقضاة ويلحق ضررًا جسيمًا بمبدأ البراءة ويشكل ضغطًا غير مشروع على عملية التقاضي . وبناء عليه، يسمح القانون في العديد من الدول بتقييد النشر في القضايا قيد المحاكمة (مبدأ ساب جوديس sub judice في القانون الأنجلوسكسوني) للحيلولة دون تشكل آراء منحازة في المجتمع أو لدى هيئة المحلفين . كذلك، يجيز القانون تقييد نشر معلومات التحقيق قبل المحاكمة حفاظًا على سرية التحقيق وضمانًا لحقوق جميع الأطراف. وقد أوضحت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن للدول التزامات إيجابية بموجب حق المحاكمة العادلة (المادة 6) والخصوصية (المادة 8) لحماية المتهم من إفشاء معلومات شخصية عبر الإعلام، بما يبرر سرية التحقيق وفرض حدود على التغطية الصحفية خلال الإجراءات السابقة للمحاكمة .

السياسات والممارسات القانونية المقارنة في بعض الدول

تتبنى فرنسا نهجًا صارمًا لحماية قرينة البراءة في الإعلام. فقد سنّت قانونًا عام 2000 يُعزِّز حقوق المتهمين ويفرض على وسائل الإعلام عدم تقديم المشتبه به بصورة توحي بأنه مذنب قبل الإدانة القضائية . بموجب هذا القانون مُنع مثلاً نشر صور الأشخاص مقيدي اليدين (بالأصفاد) إذا لم يكونوا مدانين بحكم نهائي . ويأتي هذا التشريع ردًا على ما عُرف في الثقافة الإعلامية بـ“مسرحية اصطحاب المتهم” أو Perp Walk (وهي عرض المتهم أمام عدسات الصحافة أثناء توقيفه)، وهو مشهد تعتبره فرنسا منافٍ تمامًا لقرينة البراءة وكرامة الفرد. وقد أكدت المحاكم الفرنسية أن عرض المتهم بهذه الطريقة أو نشر صوره مقيّدًا يُمثّل انتهاكًا لكرامته وافتراض براءته، مما يعرّض الجهة الناشرة للمساءلة القانونية . لذلك تميل وسائل الإعلام الفرنسية عموماً إلى التحفّظ في تغطية هوية المشتبه بهم قبل المحاكمة. ففي كثير من القضايا، يتم ذكر الحرف الأول من اسم العائلة فقط أو تغطية الوجه في الصور، التزامًا بالقانون واحترامًا لحقوق الخصوصية حتى صدور حكم نهائي . وتجدر الإشارة إلى أن القضاء الفرنسي يتيح للمتضررين إقامة دعاوى مدنية ضد وسائل الإعلام إذا نُشرت مواد تخلّ بمبدأ البراءة أو تُلحق ضررًا بسمعتهم قبل ثبوت guilt. هذه السياسة الفرنسية تعكس قيمًا راسخة في المنظومة القانونية الفرنسية منذ إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 الذي نص صراحة على افتراض البراءة حتى الإدانة.

المملكة المتحدة

في بريطانيا، تتمتع الصحافة بحرية كبيرة، لكن يقابلها إطار صارم لضمان عدم التأثير على حيادية المحاكم. فبمجرد توجيه اتهام رسمي (أو القبض على مشتبه به وبدء الإجراءات)، يُصبح الملف “قضية نشطة” sub judice مما يُلزم وسائل الإعلام بتوخي الحذر الشديد في النشر. هناك قانون ازدراء المحكمة لعام 1981 الذي يعاقب أي نشر يُشكل “خطورة كبيرة على سير العدالة” أثناء المحاكمة . لذلك تُحجم الصحافة البريطانية عن نشر أي تفاصيل قد تؤثر على المحلفين أو الشهود، بما في ذلك أحيانًا الامتناع عن نشر صور المتهم إذا كان من شأنها التأثير على التعرف على هويته من قِبل الشهود. كذلك تُلزم هيئات تنظيم الإعلام (مثل هيئة IPSO للصحافة المكتوبة وOfcom للبث) وسائل الإعلام بالموازنة بين حق الجمهور بالمعرفة وحق المتهم في محاكمة عادلة. ورغم عدم وجود حظر قانوني مطلق على نشر صور أو أسماء المتهمين بعد اتهامهم رسميًا، فإن هناك ممارسة متعارف عليها بعدم نشر اسم المشتبه به قبل توجيه الاتهام (أي في مرحلة ما بعد الاعتقال وقبل الإحالة إلى المحكمة) إلا في حالات استثنائية لها مبرر شرعي كحماية الجمهور أو نداء معلومات . وقد ذكرت إحدى المحاكم البريطانية حديثًا أن كشف هوية مشتبه به بارز قبل توجيه التهمة رسمياً قد يشكل ازدراءً للمحكمة إن كان سيؤدي إلى ضرر جسيم بسير العدالة وحقوق الخصوصية للمتهم . ومن جهة أخرى، يلتزم الصحفيون هناك بميثاق التحرير الذي يشدد على عدم الخلط بين الادعاءات والحقائق ووجوب استخدام كلمة “مزعوُم” أو “متهم” عند الإشارة إلى الشخص قيد المحاكمة، لضمان عدم تصويره كأنه مذنب قبل صدور الحكم. كل هذه الإجراءات تستهدف الحفاظ على نزاهة المحكمة وقرينة البراءة في مواجهة محكمة الرأي العام.

ألمانيا

تولي ألمانيا حماية فائقة لخصوصية المتهم وسمعته خلال الإجراءات الجنائية. فبسبب خلفيتها القانونية الصارمة في حماية البيانات والكرامة الإنسانية (المواد 1 و2 من القانون الأساسي الألماني)، جرى العُرف على عدم كشف الهوية الكاملة للمشتبه بهم في وسائل الإعلام قبل إدانتهم. غالبًا ما تذكر الصحافة الألمانية اسم الشخص الأول وحرفًا من كنيته فقط – مثل “توبياس ر.” – بدلًا من اسمه الكامل، حتى في القضايا الخطيرة . وبالمثل، تمتنع وسائل الإعلام عن نشر صور واضحة للمشتبه بهم قبل الإدانة، أو تقوم بتمويه معالم الوجه، حفاظًا على “حق الصورة” للفرد وحقه في احترام حياته الخاصة. وعلى الرغم من عدم وجود قانون فيدرالي محدد يُجرّم نشر اسم المشتبه به أو صورته قبل الحكم، فإن هذه القاعدة مستمدة من تفسير المحاكم للدستور الألماني الذي يقدّم الحق في الكرامة والخصوصية على حرية الصحافة في هذه الحالة . وقد شهدت ألمانيا حوادث لفتت الأنظار دوليًا تؤكد تشددها في هذا المجال: فعلى سبيل المثال، عندما برز مشتبه به جديد في قضية اختفاء الطفلة مادلين ماكين عام 2020، امتنعت وسائل الإعلام الألمانية والسلطات عن نشر اسمه الكامل أو صورته، مما دفع بعض وسائل الإعلام البريطانية أيضًا إلى طمس هوية الشخص على شاشاتها التزامًا بالقانون الألماني حرصًا على عدم خرق الخصوصية عبر الإنترنت . هذا التشدد ينبع من فهم أن نشر هوية المشتبه به قبل ثبوت الإدانة يُعد انتهاكًا خطيرًا لخصوصيته وقد يلحق به وصمة اجتماعية دائمة حتى لو بُرِّئ لاحقًا. وللمتهم في ألمانيا أيضًا حق قانوني في مقاضاة أي وسيلة إعلامية تنتهك خصوصيته بشكل غير مشروع وتطالب بتعويضات. وعلى صعيد آخر، لدى مجلس الصحافة الألماني مدونة أخلاقية (Pressekodex) توجه الصحفيين إلى ضرورة تفادي المساس بسمعة الأفراد غير المدانين، وإلى نشر التفاصيل الشخصية عن المتهم فقط عند وجود مصلحة عامة جوهرية كأن يكون شخصية عامة أو أن خطورته على المجتمع تبرر ذلك . هذه السياسة تعكس ثقافة قانونية تضع كرامة الفرد في المقام الأول، مستندةً إلى التجربة التاريخية وإعلاء قيم rehabilitative للعدالة.

 

الولايات المتحدة الأمريكية

في الولايات المتحدة، تكفل التعديل الأول للدستور حرية التعبير والصحافة بشكل واسع، مما يجعل القيود على نشر معلومات المشتبه بهم محدودة جدًا مقارنة بالدول الأخرى. لا يوجد قانون فيدرالي يمنع وسائل الإعلام من نشر اسم أو صورة شخص تم اعتقاله أو اتهامه، بل إن نشر صور “المَشهد الجنائي” (مثل صور اعتقال المتهمين المعروفة بالـ Perp Walk) أصبح جزءًا مألوفًا من التغطية الصحفية للجرائم . تعتمد المؤسسات الإعلامية الأمريكية على مبدأ أن من حق الجمهور معرفة هوية المشتبه بهم والأحداث الجنائية، وترى أن أي حظر مسبق على النشر يُعتبر رقابة غير دستورية (إلا في أضيق الحدود الاستثنائية). وقد أرست المحكمة العليا الأمريكية في قضية بارزة (جمعية نبراسكا للصحافة ضد ستيوارت عام 1976) مبدأ أن الأوامر القضائية التي تمنع النشر المسبق (Prior Restraints) تكاد تكون دائمًا مخالفة للدستور، وأكدت أنه يمكن تأمين محاكمة عادلة عبر وسائل أخرى أقل انتهاكًا لحرية الصحافة – مثل نقل مكان المحاكمة، واختيار هيئة محلفين بعناية، وعزل المحلفين عن التغطية الإعلامية أثناء المحاكمة . بذلك، يتم التعامل مع إشكالية التأثير الإعلامي على المحلفين من خلال إجراءات إجرائية (كاستجواب المحلّفين لاستبعاد المتأثرين إعلاميًا) وليس عبر تقييد النشر بشكل عام.

رغم هذه الحرية الواسعة، تدرك الأوساط الإعلامية الأمريكية الحساسية الأخلاقية لهذا الموضوع. مدونة أخلاقيات جمعية الصحفيين المحترفين (SPJ) توصي الصحفيين صراحةً بـ“موازنة حق المشتبه به في محاكمة عادلة مع حق الجمهور في المعرفة”، كما تحثّهم على التفكير مليًا في عواقب كشف هوية المشتبه به قبل توجيه اتهام رسمي . على سبيل المثال، غالبية المؤسسات الإعلامية الأمريكية لا تنشر أسماء المشتبه في ارتكابهم جرائم جنسية قبل توجيه تهم رسمية، وتكون حذرة جدًا في حالة القُصَّر. كذلك يُراعي الصحفيون استخدام مصطلحات مثل “المتهم” أو “المشتبه به” وعبارة “برئ حتى تثبت إدانته” في سياق التغطية كنوع من التزام المهنية والحياد. ورغم افتقار الولايات المتحدة إلى قيود قانونية مسبقة، فإنه في بعض القضايا شديدة الشهرة قد يصدر القاضي “أمر تَكتُّم” (Gag Order) يفرض على أطراف الدعوى (المحامين أو الشرطة) عدم مناقشة تفاصيل معينة مع الإعلام، وذلك لتجنب التغطية المتحيزة، لكن هذه الأوامر لا تُفرض على وسائل الإعلام ذاتها غالبًا وإنما على المصادر. وباستثناء هذه التدابير المحدودة، تظل صور “المَشية الجنائية” ونشر صور المتهمين قبل المحاكمة ظاهرة شائعة في الولايات المتحدة – وهو ما انتقدته منظمات دولية اعتبرت هذه الممارسة انتهاكًا لكرامة المتهم ومبدأ البراءة . فعلى سبيل المثال، قضية اعتقال المدير السابق لصندوق النقد الدولي دومينيك ستروس كان في نيويورك عام 2011، والتي ظهر فيها مكبل اليدين أمام الإعلام، أثارت استغرابًا في فرنسا ودول أوروبية نظراً لتعارض المشهد مع تقاليدهم القانونية التي تحظر مثل ذلك . ومع ذلك، يبقى النهج الأمريكي قائمًا على أولوية الشفافية الإعلامية، على اعتبار أن الضرر المحتمل على عدالة المحاكمة يمكن علاجه بإجراءات وقائية داخل قاعة المحكمة وليس بمنع النشر.

مواقف الهيئات والجهات الدولية

المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECtHR) تناولت مسألة تأثير الإعلام على قرينة البراءة في عدة قضايا، وأرست مبادئ مهمة. فهي تعتبر أن تصريحات الجهات الرسمية أو التغطية الإعلامية التي توحي بذنب شخص قيد المحاكمة قد تشكّل انتهاكًا للمادة 6(2) من الاتفاقية الأوروبية (قرينة البراءة) إذا كان لها تأثير على تصور الجمهور للقضية أو على حيادية القضاة . مثلاً، في قضية Allenet de Ribemont vs. France (1995)، قضت المحكمة بأن تصريحات الشرطة الفرنسية لوسائل الإعلام التي وصمت المدعي بأنه مشارك في جريمة قتل قبل محاكمته انتهكت قرينة براءته. كذلك في قضية Tourancheau and July vs. France (2005)، أيدت المحكمة إدانة صحفيَّين نشرا أدلة تحقيق سرية في صحيفة أثناء محاكمة جارية، واعتبرت أن فرض الغرامة عليهما لمخالفة سرية التحقيق كان متوافقًا مع حرية التعبير نظرًا لضرورة حماية سير العدالة . وبشكل عام، تؤكد اجتهادات المحكمة الأوروبية على وجوب التزام الإعلاميين بتحرّي الحذر عند التعليق على قضايا جنائية قيد النظر، فلا يجوز لهم الإدلاء بتصريحات من شأنها التأثير في حيادية المحاكمة أو تكوين انطباع عام مُسبق بالذنب . ومن جهة أخرى، اعترفت المحكمة بأن حق الشخص في صورته وخصوصيته مشمول بحماية المادة 8 ECHR، فإذا نُشرت صورة متهم (خاصة إن لم يكن شخصية عامة) دون موافقته وخارج سياق يعطيها قيمة إخبارية حقيقية، فإن ذلك قد يعد انتهاكًا لخصوصيته . وقد راعت المحكمة عوامل عدة عند تقييم شكاوى انتهاك الخصوصية مقابل حرية الصحافة، منها: مدى خطورة الاتهام الجنائي، ومستوى شهرة الشخص المعني، وهل يخدم النشر نقاشًا عامًا هامًا، وأسلوب عرض الصورة أو الخبر . كما شددت على أن للسلطات الحق في فرض سرية أثناء التحقيقات ومحاكمات الجنايات لحماية الحياة الخاصة للمتهم وضمان قرينة براءته، مؤكدةً على مشروعية تقييد التغطية الإعلامية في هذه المرحلة كجزء من التزام الدولة بحماية حقوق الإنسان للمتهمين .

أما اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة) وغيرها من المنظمات الدولية المعنية بحرية الإعلام، فقد تناولت الموضوع من زاوية أخلاقيات الإعلام والتدريب المهني. تؤكد اليونسكو على أن حرية الصحافة مسؤولية بقدر ما هي حق، وتدعو إلى احترام المعايير الدولية لحقوق الإنسان عند تغطية القضايا الجنائية. ففي مواد تدريبية أصدرتها اليونسكو حول تغطية قضايا الإرهاب مثلًا، تم التنبيه إلى ضرورة احترام “حق الصورة” للأفراد وألا تُنشر صور المشتبه بهم إلا في حالات استثنائية تكون فيها السلطات قد نشرت الصورة لسبب مشروع (مثلاً للمساعدة في القبض على فارّ) . كما تُبرز اليونسكو أهمية التوعية بخطر “المحاكمة الإعلامية”، حيث يتحول الإعلام إلى منصة لإصدار الأحكام قبل المحاكم. وقد تعاونت مع منظمات كمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي والمفوضية السامية لحقوق الإنسان لإعداد أدلة للصحفيين، تُذكّرهم بواجبهم في عدم التسرع باتهام الأفراد أو استخدام لغة تُشعر المتلقي بأن المتهم مذنب قطعًا قبل قرار المحكمة. ومن التوصيات التي تشدد عليها اليونسكو ومؤسسات دولية معنية بحرية التعبير تعزيز آليات التنظيم الذاتي للإعلام (مثل مواثيق الشرف) فيما يخص تغطية الجرائم، بحيث تلتزم وسائل الإعلام باحترام قرينة البراءة وخصوصية الأطراف. ويأتي هذا انسجامًا مع دعوة الأمم المتحدة عمومًا إلى تحقيق التوازن بين حرية المعلومات وحقوق الإنسان الأخرى. وقد أصدرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة بالفعل بيانات تدين التشهير الإعلامي بالمشتبه بهم، وتحث الحكومات على عدم استغلال الإعلام لتوجيه اتهامات علنية قبل المحاكمة. كما أن لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة (وهي الهيئة المعنية بمراقبة الالتزام بالعهد الدولي) تناولت هذه المسألة في تعليقاتها العامة وقراراتها. ففي التعليق العام رقم 32 (لسنة 2007) المتعلق بالمادة 14 ICCPR، شددت اللجنة على أنه ينبغي للسلطات والإعلام معًا احترام قرينة البراءة؛ فعلى المسؤولين الامتناع عن التصريحات العلنية التي تفترض ذنب المتهم، وعلى الإعلاميين تجنب التغطيات التي قد تقوّض حياد القضاء أو توحي بأن نتيجة المحاكمة محسومة سلفًا . وأكدت اللجنة أيضًا على أن تكبيل المتهمين أو عرضهم بطريقة مهينة أمام الجمهور دون ضرورة أمنية يعد انتهاكًا لكرامتهم ويمكن أن يبعث برسالة ضمنية أنهم خطرون أو مذنبون .l

القواعد الأخلاقية والمهنية للإعلام بشأن نشر صور المشتبه بهم

إلى جانب القوانين الرسمية، تلعب مواثيق الشرف الصحفية ومدونات السلوك المهنية دورًا مهمًا في تنظيم سلوك الإعلاميين فيما يتعلق بنشر صور وهوية المشتبه بهم قبل الإدانة. كثير من المؤسسات الإعلامية حول العالم تعتمد معايير طوعية مستمدة من المبادئ الدولية لحقوق الإنسان. فعلى سبيل المثال، تنص مدونة أخلاقيات جمعية الصحفيين المحترفين (SPJ) في الولايات المتحدة على وجوب “موازنة حق المشتبه به في محاكمة عادلة مع حق الجمهور في المعرفة”، وتحضّ الصحفيين على التفكير بعواقب نشر هوية المشتبه بهم قبل توجيه الاتهام رسمياً . كذلك تشدد المدونة على استخدام لغة دقيقة وغير جازمة عند تناول الاتهامات الجنائية – فيجب أن يُذكر أن الشخص “متهم” أو “مشتبه به” وألا تُستخدم عبارات قطعية تفيد الإدانة. وتوصي أيضًا بالحذر في نشر صور أو أسماء القُصَّر المتهمين، أو ضحايا الجرائم، والتريث في نشر أسماء الموقوفين في الساعات الأولى لاعتقالهم تحسبًا لتغير الظروف أو ظهور براءتهم لاحقًا .

وفي بريطانيا، يلتزم الصحفيون بمدونة تحريرية (Editors’ Code) تنص ضمن بنودها على ضرورة تحري الدقة وعدم نشر معلومات مضللة، مما يشمل ضمناً عدم تصوير شخص على أنه مذنب قبل ثبوت ذلك. كما يتعين على الصحافة هناك احترام بعض القواعد مثل عدم إبراز قرابة أو صلة عائلية لأشخاص متهمين ما لم تكن ذات صلة جوهرية بالخبر ، وعدم إفشاء معلومات قد تؤدي إلى التعرف على هوية أطفال متهمين أو ضحايا. ورغم أن المدونة البريطانية لا تحظر ذكر اسم المشتبه به البالغ، إلا أن تقاليد الصحافة ومسؤوليتها الاجتماعية قادتها إلى ممارسات حذرة، مثل: انتظار توجيه التهمة رسميًا قبل النشر، وعدم نشر صور يمكن أن تثير تحيزًا عاطفيًا قويًا ضد المتهم لدى الجمهور. وفي ألمانيا، أصدر مجلس الصحافة الألماني (Deutscher Presserat) مبادئ توجيهية ضمن “مدونة الصحافة” (Pressekodex) تشدد على احترام الخصوصية. وتنص التوجيهة 8.1 من مدونة الصحافة الألمانية مثلًا على أنه ينبغي عدم ذكر الأسماء الكاملة للمتهمين في الجرائم، أو نشر صورهم، إلا إذا كانت الجريمة على قدر عالٍ من الخطورة والاهتمام العام، أو إذا صدرت إدانة نهائية . كما تلزم وسائل الإعلام بحذف أي معلومات تعريفية عن المتهم من الأرشيف الإلكتروني بعد فترة معينة أو بعد صدور حكم بالبراءة، حفاظًا على حقه في النسيان وإعادة الاعتبار. وفي فرنسا أيضًا، لدى النقابات الصحفية ومواثيق العمل الإعلامي تأكيد على احترام قرينة البراءة. فميثاق قناة France Télévisions – على سبيل المثال – يوجب استخدام كلمة “مفترض” (présumé) عند الحديث عن مشتبه بهم أو متهمين، لضمان أن الجمهور يدرك أن الأمر لا يزال في نطاق الشبهات والمحاكمة لم تنته .

من جهة أخرى، تتبنى العديد من غرف الأخبار سياسة تمويه الوجوه في الصور ومقاطع الفيديو عند تغطية عمليات القبض على المشتبهين، خصوصًا إذا لم يتم بعدُ تقديمهم للمحاكمة. هذه السياسة نابعة من كل من الاعتبارات القانونية والأخلاقية: قانونية لتجنب أي مسؤولية عن انتهاك محتمل للخصوصية أو التأثير على العدالة، وأخلاقية للحفاظ على كرامة الأفراد. وتلتزم وسائل الإعلام أيضًا بعدم نشر أي صور مُهينة أو لقطات مُذلة للمشتبه بهم (مثل صورهم أثناء ارتداء أزياء السجن أو وهم محاطون برجال الأمن بشكل يستعرضهم كمجرمين خطرين) إلا إذا كان هناك مبرر خبري قوي وبما لا يخل بموضوعية التغطية .

علاوة على ذلك، تُدرِّس كليات الإعلام ومعاهد التدريب الصحفي مبادئَ أخلاقية تتعلق بهذه القضية. ويتم تدريب الصحفيين على إدراك عواقب التغطية الجنائية على حياة الأفراد، خاصة إذا ثبتت براءتهم لاحقًا، حيث قد لا يستطيعون استعادة سمعتهم بسهولة بعد تشويهها إعلاميًا. وقد أعدّت بعض المنظمات الدولية غير الحكومية أدلة متخصصة للصحفيين؛ فمثلاً منظمة Fair Trials الدولية أصدرت في عام 2019 تقريرًا يوصي بمجموعة أدوات للصحفيين عند تغطية قضايا مشتبه بهم . تضمّن هذا التقرير “Checklist” لمساعدة الإعلاميين على تجنب انتهاك قرينة البراءة، من قبيل: الامتناع عن وصف الشخص بأنه مذنب، وتجنب نشر صورته في قيود أو ملابس السجن، والتفكير في تأثير العنوان والصور على الرأي العام. ودعا التقرير ذاته إلى تضمين فصل خاص في مواثيق الشرف الصحفية حول تغطية الإجراءات الجنائية، وحظر شامل على تصوير المتهمين بقيودهم قبل الإدانة .

وفي المحصلة، أصبحت الثقافة الإعلامية الاحترافية في كثير من الدول أكثر وعيًا بهذه التحديات. فالإعلاميون يدركون أن دورهم لا يقتصر على حق النشر، بل يشمل واجبًا بعدم الإضرار بسير العدالة أو التشهير غير المبرر بالأفراد. وعلى الرغم من اختلاف التشريعات بين البلدان، يجتمع العديد من الصحفيين والمؤسسات الإعلامية حول العالم على تبنّي معايير أخلاقية توازن بين كشف الحقيقة واحترام حقوق الإنسان الأساسية

© جميع الحقوق محفوظة. 2025 بوابة القوانين فى دولة الكويت