أحصائية باعداد القوانين والتشريعات
قوانين : 439 (ق)
-
مواثيق واتفاقيات : 20 (ق)
-
لوائح وقرارات : 460 (ق)

الفصل بين الدعوى المدنية والجزائية

المحرر منذ سنة 1861
الفصل بين الدعوى المدنية والجزائية

 


الفصل بين الدعوى المدنيّة والجزائيّة في القانون الكويتي

 

 

 

في النظام القانوني الكويتي قد ينشأ عن الفعل الواحد مسؤوليّة جزائيّة (باعتباره جريمة) ومسؤوليّة مدنيّة (باعتباره فعلًا ضارًا). لذلك نظّم المشرّع الكويتي العلاقة بين الدعوى الجزائيّة الناشئة عن الجريمة والدعوى المدنيّة للمطالبة بالتعويض عن الضرر الناشئ عن نفس الفعل. سنتناول فيما يلي الأساس القانوني لارتباط أو فصل الدعويين في التشريع الكويتي، ومبادئ محكمة التمييز بشأن ذلك، والجوانب الإجرائيّة والموضوعيّة ذات الصلة (متى يجوز الفصل ومتى يجب ضمّهما، وما يترتّب على كل خيار)، مع مقارنة مختصرة ببعض الأنظمة الأخرى كالمصري والفرنسي لبيان أوجه التشابه والاختلاف. ويُختتم التقرير بـتحليل نقدي يقيّم ما إذا كان فصل الدعويين يُحقّق العدالة الناجزة، ومدى تأثيره على حقوق كل من المدعي (المتضرر) والمدعى عليه.

 

 

 

الأساس القانوني لارتباط أو فصل الدعوى المدنيّة والجزائيّة في التشريع الكويتي

 

 

 

1. قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائيّة (القانون رقم 17 لسنة 1960 وتعديلاته): يعتبر هذا القانون الأساس لتنظيم الادعاء المدني التبعي للدعوى الجزائية في الكويت. تنص المادة (111) منه على حق كل من لحقه ضرر من الجريمة أن يرفع دعوى بحقه المدني أمام المحكمة الجزائية المنظور أمامها الدعوى الجزائية، وذلك في أي حال كانت عليه الدعوى إلى أن تُختَم المرافعة . ويُعامل المدعي بالحق المدني – عندئذ – كطرف منضّم في الدعوى الجزائية القائمة . وهذا يعني أن للمجني عليه (أو ورثته) الحق في المطالبة بالتعويض المدني عن الضرر الناشئ مباشرةً من الفعل الجرمي ضمن إجراءات المحاكمة الجزائية نفسها، فيصبح مدعيًا منضمًا ولا يملك تغيير نطاق الاتهام أو إضافة متهمين جدد، لأن دوره يقتصر على المطالبة بحقه المدني ضمن حدود الجريمة محل الدعوى الجزائية التي أثارتها النيابة العامة.

 


تنص المادة (112) إجراءات جزائية على جواز إدخال المسؤول عن الحقوق المدنية في المحاكمة الجزائية (كشركة تأمين أو ولي أمر ونحوه)، ليصبح خصمًا منضمًا إلى المتهم . وأكدت المادة (113) من القانون ذاته على أن الأصل هو أن تفصل المحكمة الجزائية في طلبات التعويض المدني في الحكم نفسه الذي تصدره في الدعوى الجزائية . وبذلك يحقق القانون ارتباطًا إجرائيًا بين الدعويين، حيث تصدر المحكمة حكم الإدانة متبوعًا بحكم التعويض للمتضرر إذا ثبتت مسؤوليّة المتهم . ومع ذلك، أجازت المادة (113) للمحكمة – كاستثناء يهدف لمنع تأخير الفصل في الدعوى الجزائية – أن تقوم بفصل الدعوى المدنيّة عن الدعوى الجزائيّة إذا رأت أن نظرهما معًا سيؤخر الفصل في الجزائية؛ وفي هذه الحالة تحكم في الدعوى الجزائية وحدها، وتؤجل البت في الدعوى المدنيّة إلى جلسة أخرى أو تحيلها إلى المحكمة المدنيّة المختصّة . هذا النص يؤكد حرص المشرّع على تقديم البت في المسألة الجنائية وعدم تعطيلها بطلبات التعويض إذا كانت معقّدة أو تحتاج وقتًا طويلًا .

 


كذلك نظمت المادة (114) إجراءات جزائية حق المدعي المدني في التنازل عن دعواه المدنيّة أمام القضاء الجزائي في أي مرحلة، دون أن يؤثر ذلك على حقّه في رفعها أمام القضاء المدني لاحقًا (إلا إذا صرّح بالتنازل عن أصل الحق) . ويترتب على غياب المدعي المدني عن الجلسة - دون عذر - جواز اعتباره متنازلًا عن دعواه المدنيّة . أما المادة (115) من القانون ذاته فتنص على أنه إذا أدانت المحكمةُ المتهمَ، جاز لها من تلقاء نفسها أن تلزمه بدفع تعويض للمتضرر حتى لو لم يكن هناك ادعاء مدني، بشرط أن يتعهد المحكوم له (المجني عليه) بألا يطالب بأي تعويض آخر عن الجريمة ذاتها . وهذا حكم فريد يهدف إلى تيسير حصول المجني عليه على تعويض سريع دون حاجة لإجراءات إضافيّة، لكنه مشروط بعدم ازدواج المطالبة بالتعويض مرتين عن ذات الفعل. وقد أجازت المادة (115) للمحكمة أن تأمر بالتقسيط أو بالإكراه البدني على المحكوم عليه إذا امتنع عن الدفع وفق الضوابط المحددة .

 


تجدر الإشارة أيضًا إلى المادة (116) إجراءات جزائية التي تمنح المتهم حق طلب تعويض مدني أمام المحكمة الجزائية عن أي ضرر لحقه من اتهام كيدي أو قائم على التسرع من جانب المبلّغ أو المجني عليه . ويقدم المتهم هذا الطلب إما بإعلان رسمي أو شفاهةً بالجلسة، وللمحكمة أن تفصل فيه في الحكم ذاته بالدعوى الأصلية أو ترجئه إن اقتضى تحقيقًا خاصًا قد يؤخر الفصل في الدعوى الجزائية . وهذا نظير الحق الممنوح للمجني عليه، ويخضع أيضًا لسلطة المحكمة في الفصل أو التأجيل تفاديًا لتأخير البت في القضية الجنائية الأصلية .

 


2. قانون المرافعات المدنيّة والتجاريّة: لم يغفل المشرّع في قانون المرافعات (القانون رقم 38 لسنة 1980 وتعديلاته) تنظيم مسألة وقف الدعوى المدنيّة لحين الفصل في أخرى مرتبطة بها. تنص المادة (90) مرافعات على أن: “تأمر المحكمة بوقف الدعوى إذا رأت تعليق الحكم في موضوعها على الفصل في مسألة أخرى يتوقف عليها الحكم. وبمجرد زوال سبب الوقف يكون لأي من الخصوم تعجيل الدعوى” . ويدخل ضمن تطبيقات هذه المادة حالة وجود دعوى جزائيّة منظورة تتعلق بذات الواقعة التي هي أساس للدعوى المدنيّة؛ إذ يعتبر الفصل في الدعوى الجزائية مسألة أوليّة يتوقف عليها الحكم في الدعوى المدنيّة. لذا إذا أقيمت الدعوى المدنيّة منفصلة أمام المحكمة المدنيّة بينما لا تزال الدعوى الجزائية قائمة، وجب على القاضي المدني وقف الدعوى المدنيّة وجوبيًا حتى صدور حكم بات في الدعوى الجزائية المتعلقة بذات الفعل . وهذا ما يعبّر عنه الفقه والقضاء بمبدأ “الجنائي يعقل (يوقف) المدني” . وقد نصت على هذا المبدأ صراحةً بعض التشريعات: فمثلاً أشار أحد المصادر إلى نص المادة (456) من قانون الإجراءات الجنائية (نقلاً عن التشريع المصري) التي توجب وقف السير في الدعوى المدنية عند رفع دعوى جنائية عن الفعل ذاته وحتى يُفصل في الدعوى الجنائية . وبالمثل، اعتبر قانون السلطة القضائية الكويتي (46 لسنة 1972) في المادة (16) منه أن المحكمة يجب أن توقف الدعوى إذا كان الفصل فيها يتوقف على بت جهة قضائية أخرى في مسألة أولية خارجة عن اختصاصها .

 


3. قانون الإثبات في المواد المدنيّة والتجاريّة (القانون رقم 39 لسنة 1980): يعالج قانون الإثبات مسألة حجية الأحكام الجنائية أمام القضاء المدني. فقد نصّت المادة (54) منه على أنه: “لا يرتبط القاضي المدني بالحكم الجنائي إلا في الوقائع التي فصل فيها هذا الحكم وكان فصله فيها ضروريًا. ومع ذلك فإنه لا يرتبط بالحكم الصادر بالبراءة إلا إذا قام على نفي نسبة الواقعة إلى المتهم” . يُستفاد من ذلك أن الحكم الجنائي (متى صار باتًا) تكون له قوّة الشيء المحكوم به أمام المحاكم المدنيّة فيما يتعلق بثبوت وقوع الفعل المكوّن للأساس المشترك بين الدعويين ووصفه القانوني ونسبة الفعل إلى فاعله . فهذه أمور فصلت فيها المحكمة الجزائية بشكل لازم للحكم الجنائي، فلا يجوز للقاضي المدني إعادة بحثها أو إصدار حكم يناقض ما انتهى إليه الحكم الجزائي بشأنها . ويُعد هذا التطبيق المباشر لمبدأ حجية الأحكام الجنائية أمام القضاء المدني. ولكن بالمقابل، الحكم الجنائي الصادر بالبراءة لا يقيّد القاضي المدني إلا إذا كانت البراءة مبنيّة صراحةً على انتفاء وقوع الفعل أو عدم نسبته إلى المتهم (أي براءة لأن المتهم لم يرتكب الفعل أو أن الفعل لم يحدث من الأصل) . أما إذا كانت البراءة قد بُنيت على عدم كفاية الأدلة أو تشكّك المحكمة الجنائية في إدانة المتهم دون أن تجزم بنفي الفعل عنه، فإن هذه البراءة لا تمنع القاضي المدني من بحث المسؤولية التقصيرية للفعل؛ إذ قد تثبت المسؤولية المدنيّة بمعيار الإثبات الأخف (الرجحان) رغم الشك الجنائي . وهذا التفريق التشريعي يوازن بين عدم إفلات المتسبب بالضرر من التعويض لمجرد عدم كفاية الأدلة الجنائية، وبين احترام حجية الحكم الجنائي حين يقين المحكمة أن المتهم بريء لأن الفعل منسوب إلى غيره أو لم يقع أصلاً .

 


يُستخلص مما سبق أن التشريع الكويتي أرسى رابطة وثيقة بين الدعوى الجزائية والدعوى المدنية الناشئة عن الفعل الجرمي من حيث القانون (الرابطة القانونية)؛ إذ أجاز للأخيرة أن تُقام تبعًا للأولى أمام المحكمة الجزائية، وأوجب وقف أي دعوى مدنية منظورة مستقلًا حتى يُفصل في الجزائية المرتبطة بها، وأقرّ حجية للأحكام الجزائية على القضايا المدنية في الموضوع المشترك بينهما. لكنه في الوقت نفسه وضع ضوابط للفصل الإجرائي عند الحاجة؛ فالمحكمة تملك فصل الدعويين إجرائيًا تفاديًا لتعطيل العدالة الجزائية ، والمدعي المدني نفسه مخيّر بين الطريق الجزائي والطريق المدني ويمكنه التحول من الأول للثاني في أي وقت قبل الفصل النهائي . الأصل أن يُفصل في الحقوق المدنيّة ضمن الدعوى الجزائية تحقيقًا لوحدة الخصومة وحسم المسائل دفعةً واحدة، لكن الاستثناء أن يُفرد للتعويض مسار مستقل إذا قضت ضرورة العدالة أو سرعة الفصل بذلك . وبذلك يتضح الأساس القانوني المرن الذي وضعه المشرّع الكويتي لضمان عدم تفويت حق المتضرر في التعويض وفي نفس الوقت عدم إبطاء البت في الدعوى الجنائية.

 

 

 

مبادئ محكمة التمييز الكويتية بشأن ارتباط وفصل الدعويين

 

 

 

تناولت محكمة التمييز (وهي أعلى سلطة قضائية في الكويت) مسألة العلاقة بين الدعوى الجزائية والدعوى المدنية التابعة لها في العديد من أحكامها، وأرست مبادئ قضائية مهمة توضح كيفية تطبيق القانون عمليًا. من أبرز هذه المبادئ:

 


اختصاص المحكمة الجزائية بنظر الدعوى المدنية هو اختصاص استثنائي وضيق النطاق: قررت محكمة التمييز بوضوح أن اختصاص المحاكم الجزائية في نظر مطالبات التعويض المدني هو اختصاص استثناء من الأصل العام الذي يجعل المحاكم المدنية صاحبة الولاية العامة بنظر المنازعات المدنية . فقد جاء في أحد أحكامها: “الأصل في دعاوى الحقوق المدنية أن تُرفع إلى المحاكم المدنية، وإنما أباح القانون استثناءً رفعها إلى المحكمة الجزائية متى كانت تابعة للدعوى الجزائية… أي أن يكون التعويض ناشئًا عن فعل خاطئ مكوّن لجريمة هي موضوع الدعوى الجزائية المنظورة” . وأضافت المحكمة أن هذه الإباحة الاستثنائية تزول إذا لم تتحقق شروطها، وفي هذه الحالة تكون المحاكم الجزائية غير مختصّة بالفصل في الدعوى المدنية . وتأسيسًا على ذلك المبدأ، قضت التمييز بأن أي شك في تحقق شروط تبعية الدعوى المدنية للجزائية يُفسَّر لصالح الاختصاص الأصيل للمحكمة المدنية. فمثلاً، إذا رُفعت دعوى تعويض أمام المحكمة الجزائية دون أن يكون الضرر ناشئًا مباشرة عن الفعل المكوّن للجريمة محل الاتهام، فإنه يتعين على المحكمة الجزائية الحكم بعدم اختصاصها ولائياً بنظر الدعوى المدنيّة .
وجوب وقف الدعوى المدنيّة انتظارا للحكم الجزائي متى جمعتهما واقعة مشتركة: أرست محكمة التمييز مبدأً مفاده أن وجود دعوى جزائية منظورة بشأن واقعة ما يُشكّل مانعًا قانونيًا يحول دون متابعة السير في دعوى مدنية تعتمد على نفس الواقعة حتى يُفصل في تلك الجزائية بحكم نهائي . وجاء في إحدى حيثياتها: “يتعيّن على المحكمة المدنية وقف الدعوى أمامها انتظارًا للحكم الجزائي الذي يصدر في الدعوى الجزائية، باعتبار أن ذلك نتيجة لازمة لمبدأ تقيّد القاضي المدني بالحكم الجزائي في الموضوع المشترك بين الدعويين. ولأن الدعوى الجزائية تُعتبر مانعًا قانونيًا من متابعة السير في الدعوى المدنية التي يجمعهما أساس مشترك. وهذه القاعدة تُعدّ من النظام العام، تقضي بها المحكمة من تلقاء نفسها، ويجوز التمسك بها في أي حالة كانت عليها الدعوى” . وقد طبّقت محكمة التمييز هذا المبدأ في العديد من القضايا، فنقضت أحكامًا مدنية كانت قد مضت في نظر نزاع التعويض رغم قيام دعوى جنائية بشأن ذات الواقعة، مؤكدةً أن مخالفة قاعدة “الجنائي يوقف المدني” تُعد خطأً جسيمًا لمساسها بالنظام العام.
حجية الأحكام الجزائية أمام المحاكم المدنية: كرّست محكمة التمييز الكويتيّة في أحكامها مبدأ حجية الحكم الجنائي البات أمام القضاء المدني، وفق الضوابط التي رسمها القانون. فقررت مثلاً: “من المقرر أن الحكم الجزائي تكون له حجيته في الدعوى المدنية كلما كان قد فصل فصلاً لازمًا في وقوع الفعل المكوّن للأساس المشترك بين الدعويين الجزائية والمدنية وفي الوصف القانوني لهذا الفعل ونسبته إلى فاعله. فإذا فصلت المحكمة الجزائية في هذه الأمور امتنع على المحاكم المدنية أن تعيد بحثها ويتعيّن عليها أن تلتزمها في بحث الدعوى المدنية المتعلقة بها؛ كي لا يكون حكمها مخالفًا للحكم الجزائي” . ويظهر من ذلك تأكيد القضاء على وجوب التزام القاضي المدني بحكم الإدانة الجنائي في نطاق العناصر المشتركة، منعًا لتناقض الأحكام ولحماية قوة الشيء المقضي به جزائيًا. وبالمقابل، عالجت المحكمة أثر أحكام البراءة على الدعوى المدنيّة؛ فقضت بأن الحكم الجزائي البات بالبراءة لا تكون له حجية أمام القضاء المدني إلا في حالة ما إذا كانت البراءة مبنية على نفي الفعل أو عدم إسناده إلى المتهم. أما إذا كانت البراءة بسبب تشكك المحكمة في الأدلة دون أن تجزم بنفي الواقعة عن المتهم، فلا حجية لحكم البراءة في هذا الشأن . وجاء في أحد الأحكام: “الحكم الجزائي الصادر بالبراءة لا تكون له حجية إلا إذا كان قد نفى نسبة الواقعة إلى المتهم. أما إذا كان مبنى البراءة مجرد تشكّك المحكمة في الدليل لعدم اطمئنانها إليه… فإنه لا يكون لحكم البراءة ثمة حجية في هذا الشأن” . وقد طبّقت التمييز ذلك على وقائع ملموسة؛ فإذا بُرِّئ شخص من الاتهام الجنائي لعدم كفاية الأدلة، فلا يمنع ذلك المتضرر من مطالبته بالتعويض أمام المحكمة المدنية، لأن البراءة هنا ليست مبنية على براءة المتهم يقينًا من الفعل المنسوب . هذا المبدأ ينسجم مع نص المادة 54 من قانون الإثبات المشار إليه أعلاه، وقد استعانت محكمة التمييز بها مباشرةً في تسبيب أحكامها .
إجرائية الفصل بين الدعويين في حالة البراءة: من المبادئ المهمة أيضًا ما قررته محكمة التمييز حول كيفية تصرّف المحكمة الجزائية في الدعوى المدنيّة المرفوعة أمامها إذا انتهت الجزائية بالبراءة. حيث أكدت أنه إذا قضت المحكمة الجزائية ببراءة المتهم لأن الفعل المسند إليه لا يُشكّل جريمة (كأن يتبيّن لها أن الواقعة ليست مؤثّمة جنائيًا أو أن عناصر الجريمة غير متوافرة قانونًا)، فيجب عليها في هذه الحالة الحكم بعدم اختصاصها بنظر الدعوى المدنيّة التابعة، وليس رفضها موضوعيًا . وقد أوضحت التمييز أن أساس ذلك هو أن اختصاص المحكمة الجزائية بنظر التعويض كان مبنيًا على وجود جريمة؛ فإذا انتفى وصف الجريمة بحكم البراءة، زال سند الاختصاص الاستثنائي للجزائية في نظر التعويض وعاد الاختصاص للمحكمة المدنيّة . وقد طبّقت محكمة التمييز هذا المبدأ في قضية اتُهمت فيها إحدى الصحف بجريمة سبّ وقذف ضد شركة، فقضت محكمة أول درجة والاستئناف ببراءة الصحيفة من التهمة، فقامت الشركة (المدعية بالحق المدني) بالطعن أمام التمييز رغم عدم طعن النيابة. فقررت التمييز رفض الطعن، موضحةً أنه طالما انتهت المحاكم إلى أن الفعل لا يشكّل جريمة وقضت بالبراءة، فقد كان لزامًا أيضًا القضاء بعدم اختصاص المحكمة الجزائية بنظر التعويض المدني لانتفاء الأساس الجزائي لدعواها . بمعنى آخر، لا يملك المتضرر في هذه الحالة الاستمرار بالمطالبة بالتعويض أمام المحكمة الجزائية، بل عليه اللجوء إلى المحكمة المدنية إن رأى أن الفعل الخطأ يستوجب التعويض وفق القواعد المدنية (كالمسؤولية التقصيرية) بغض النظر عن التكييف الجنائي.
حدود دور المدعي بالحق المدني أمام المحكمة الجزائية: كما أكدت محكمة التمييز ضمنيًا في أحكامها الحدود الإجرائية لدور المدعي المدني في الدعوى الجزائية. فهو تابع للإجراءات الجزائية التي تقودها النيابة العامة، ولا يجوز له الخروج عن نطاق الجريمة المرفوعة بها الدعوى أو تعديل وصفها أو إدخال متهمين آخرين في الدعوى الجزائية. اختصاص توجيه الاتهام أو تعديله هو من صميم سلطة النيابة العامة والقضاء الجزائي، وليس من حقوق المدعي المدني. وهذا الفهم مستفاد من كون المدعي المدني يُعد “منضما” في الدعوى الجزائية كما سلف بيانه ، وبالتالي ليس خصمًا أصليًا في الجانب الجزائي من النزاع. وقد ظهر هذا المعنى في بعض الأحكام عند مناقشتها لمسألة تعديل المحكمة لوصف التهمة أو مدى جواز طعن المدعي المدني على حكم البراءة استقلالًا: فمحكمة التمييز قررت مثلاً أن المدعي المدني لا يملك الطعن بالتمييز في الحكم الجزائي الصادر بالبراءة إذا لم تطعن النيابة، لأن مصلحته في التعويض يمكن تحقيقها أمام القضاء المدني بعد البراءة وليس عبر محاولة تغيير الوصف الجزائي الذي اعتمدته المحكمة . ويُفهم من ذلك أن المدعي المدني يلتزم بالوصف والخصومة الجزائية كما هي، وتركيزه ينصب على إثبات أركان المسؤولية المدنية (الخطأ والضرر والعلاقة السببية) في إطار الوقائع المعروضة دون تجاوزها .

 

 


وخلاصة هذه المبادئ التمييزية أنها ترسّخ التلازم بين الدعويين مع الحفاظ على استقلال كل منهما ضمن حدود: فالمحكمة الجزائية تتقيد بحدود اختصاصها الاستثنائي فتفصل في التعويض فقط حين يكون ناشئًا عن جريمة ثابتة أمامها ، وتتنحى عنه (بعدم الاختصاص) إن انتفت الجريمة ؛ كما أن المحاكم المدنية تتقيد بالأحكام الجزائية النهائية في نطاق ما فصلت فيه، وتنتظر صدورها قبل المضي في نظر التعويض ، لكنها تستعيد ولايتها كاملة متى انتهت الدعوى الجنائية سواء بالإدانة أو حتى بالبراءة (في حدود ما لا تمنعه حجية الحكم) . هذه الضوابط القضائية تضمن عدم تعارض الأحكام وتحمي حقوق الدفاع، سواء للمتهم أو للمدعي بالحق المدني.

 

 

 

الجوانب الإجرائية والموضوعية لارتباط أو فصل الدعويين

 

 

 

يتطلب فهم مسألة الفصل بين الدعوى الجزائية والمدنية النظر في جانبين: الجانب الإجرائي (الشكلي) المتعلق بموعد وطريقة نظر كل من الدعويين، والجانب الموضوعي المتعلق بتأثير إحدى الدعويين على الأخرى من حيث النتائج والحجية. كما يلزم تحديد متى يجوز الفصل بينهما ومتى يجب نظرهما مرتبطتين، وكذلك النتائج المترتبة على كل خيار.

 


أولًا: من حيث الإجراءات وطرق رفع الدعوى – يملك المتضرر من الجريمة خيارين فيما يتعلق بالمطالبة بحقه المدني (التعويض):

 


الخيار الأول هو ضمّ المطالبة المدنية إلى الدعوى الجزائية القائمة: بأن يتدخل المجني عليه أو صاحب الحق المدني أثناء التحقيق أو المحاكمة الجنائية مطالبًا بتعويضه. وقد نظّم المشرّع هذا الخيار كما أسلفنا في المادة (111) إجراءات جزائية، التي تتيح للمتضرر رفع دعواه المدنيّة في أي مرحلة من الدعوى الجزائية حتى قفل باب المرافعة . في هذه الحالة، تُنظر الدعويان معًا أمام القاضي الجزائي تحقيقًا للوحدة الإجرائية. والقاضي الجزائي عندئذ يفصل في موضوع الدعوى الجزائية (إدانة أو براءة المتهم) وفي ذات الحكم يصدر قرارًا بشأن التعويض المدني المطلوب . مثال ذلك: إذا ارتكب شخص فعلًا يُشكّل جريمة إصابة خطأ (حادث سير مثلًا) وترتب عليه أضرار مادية للمصاب، جائز للمصاب أن يطالب بتعويضه المادي أمام المحكمة الجزائية التي تنظر قضية الحادث الجنائي. فإذا أدانت المحكمة المتهم، حكمت عليه بالعقوبة الجزائية وبالتعويض المدني للمتضرر في حكم واحد . أما إذا انتهت إلى عدم سماع الدعوى الجزائية أو عدم قبولها لأي سبب شكلي أو لانقضائها بالتقادم أو العفو، فإنها بالتبعية تمتنع عن نظر الدعوى المدنية المرفوعة أمامها بوصفها مدنية تابعة . ومثال آخر: إذا رُفضت الدعوى الجزائية لعدم صحة إجراءاتها، فعلى المحكمة الجزائية في هذه الحالة أن تتخلى عن الدعوى المدنية التابعة دون مساس بأصل الحق، تاركةً للمدعي المدني حرية اللجوء للقضاء المدني لاحقًا.
الخيار الثاني هو رفع الدعوى المدنية بشكل مستقل أمام المحكمة المدنية المختصة: وهذا الطريق يظل مفتوحًا دائمًا للمتضرر، سواء اختار منذ البداية عدم اللجوء إلى المحكمة الجزائية، أو اختار الطريق الجزائي ثم قرر لاحقًا ترك دعواه المدنية أمام الجزائية وفق المادة (114) إجراءات جزائية . لكن ينبغي التمييز هنا بين حالتين:

حالة سبق الفصل جزائيًا في الواقعة: إن كان قد صدر حكم جزائي بات بشأن الواقعة (بالإدانة أو البراءة)، فإن رفع الدعوى المدنية مستقلًا بعد ذلك يكون ممكنًا أمام المحكمة المدنية، مع التزام هذه الأخيرة بحجية الحكم الجزائي في ما قضى به – كما سبق بيانه – من ثبوت الفعل ونسبته للمتهم أو نفيهما . فمثلاً، إذا حكمت المحكمة الجزائية بإدانة المتهم بارتكاب الفعل الجرمي، فإن حكمها هذا – متى بات – يقيّد المحكمة المدنية التي تنظر التعويض بحيث لا يجوز لها إنكار وقوع الفعل أو نسبته للمدعى عليه المحكوم عليه جنائيًا . وعملًا بالقانون، يكون دور المحكمة المدنية منحصرًا في تقدير مبلغ التعويض ومستحقاته بناءً على ثبوت الخطأ بحكم جنائي سابق. وعلى الجانب الآخر، إذا كان الحكم الجزائي باتًا بالبراءة، فيتوقف تأثيره بحسب أساس البراءة: فإن كانت البراءة لعدم وقوع الفعل أو عدم صحة نسبته للمتهم، امتنع على المتضرر إعادة رفع الدعوى المدنية لأن الأساس المشترك انتفى بحكم القضاء ؛ أما إن كانت البراءة لعدم كفاية الأدلة، جاز له الولوج للقضاء المدني لمحاولة إثبات الخطأ المدني (الذي لا يتطلب نفس قوة الأدلة)، مع إدراك أن المحكمة المدنية غير ملتزمة بحكم البراءة في هذه الحالة المحددة .
حالة عدم الفصل جزائيًا بعد أو أثناء السير بالتوازي: إذا رُفعت الدعوى المدنيّة أمام المحكمة المدنيّة بينما الدعوى الجزائية ما زالت منظورة بشأن ذات الواقعة، فإن الوضع الإجرائي الذي تفرضه القواعد القانونية (المادة 90 مرافعات والمبادئ التمييزية) هو وجوب وقف الدعوى المدنية تعليقًا حتى يصدر الحكم في الدعوى الجزائية . أي أن الأصل عدم الفصل النهائي في الدعوى المدنية قبل حسم المسألة الجزائية المرتبطة. وهذا الحل يهدف إلى منع صدور حكم مدني يتعارض مع ما قد تستقر عليه المحكمة الجزائية. لذا يعتبر وجود الدعوى الجزائية مانعًا إجرائيًا أمام القاضي المدني من المضي في نظر موضوع التعويض . ويظل الأمر كذلك إلى أن يصدر الحكم الجزائي البات – إدانةً أو براءة – فيستأنف القاضي المدني نظر الدعوى بناءً على تلك النتيجة . إلا أنه إذا طال أمد البت في الدعوى الجزائية بشكل غير معقول وكان في استمرار تعليق الدعوى المدنية ضرر جسيم للمدعي (المتضرر)، فقد يُتاح للطرف المتضرر طلب استعجال الفصل الجزائي أو تقديم ما يثبت انتهاء المسار الجنائي (كصدور قرار حفظ أو أمر نهائي بألا وجه لإقامة الدعوى الجزائية) لاستنئاف السير مدنيًا. وفي حال صدر مثل هذا الأمر (عدم وجود دعوى جزائية منظورة)، يزول سبب الوقف ويحق لأي من الخصوم تعجيل الدعوى المدنية وفق المادة 90 مرافعات .

 

 

 


ثانيًا: من حيث ارتباط أو استقلال الموضوع والحجية – يبرز في هذا الجانب مفهوم الارتباط القانوني بين الدعويين مقابل الاستقلال الموضوعي لكل منهما:

 


يمكن القول إن هناك وحدة موضوعية نسبية بين الدعويين؛ إذ أن أساس الدعوى المدنية بالتعويض هو الفعل غير المشروع نفسه الذي تنظر المحكمة الجزائية في تجريمه . وعليه، فإن البت في وقوع ذلك الفعل وثبوته على المتهم يعد أمرًا جوهريًا مشتركًا. فإذا قضت المحكمة الجزائية بالإدانة وأثبتت أن المتهم ارتكب الفعل وشكّل جريمة، فإن ذلك الفصل يكون ملزمًا في الدعوى المدنية التالية لكون الخطأ المدني حينئذ قائم على نفس الواقعة الإجرامية . وبالمثل، إذا قضت الجزائية بأن المتهم لم يرتكب الفعل أو أن الفعل لا يعاقب عليه جنائيًا (انتفاء التجريم)، فإن القاضي المدني لا يمكنه تجاهل هذا الحكم فيقيم مسؤولية مدنية عن فعل قضى القضاء الجزائي أنه لم يقع من الشخص المدعى عليه . فالهدف هو تفادي أي تناقض بين الأحكام وحماية الثقة العامة بالأحكام القضائية.
رغم ذلك الارتباط القانوني الوثيق، تتمتع كل من الدعويين باستقلال نسبي في الموضوع. فالمسؤولية الجنائية – من حيث الغاية – ترمي إلى توقيع العقوبة على الجاني تحقيقًا للردع والزجر وحماية المجتمع، أما المسؤولية المدنية فهدفها جبر الضرر الخاص للضحية بتعويض مالي أو معنوي. لذلك قد تكون هناك عناصر لا يشملها البحث الجنائي لكنها مطروحة في نطاق الدعوى المدنية، مثل مقدار الضرر وتقدير التعويض الملائم وظروفه. هذه الأمور تقوّي جانب استقلال الدعوى المدنية موضوعيًا عن الجزائية، حتى لو استندت على أساس وقائع مشترك. فعلى سبيل المثال، الحكم الجنائي بثبوت جريمة القتل الخطأ يُثبت خطأ الجاني ووجوب التعويض، لكنه لا يحدد مبلغ التعويض ولا يقيّم حجم الضرر الأدبي لأهل الضحية؛ فهذه مسائل متروكة للقضاء المدني أو للجزائي عند نظره الدعوى المدنية التابعة. كذلك، قد يظهر في الدعوى المدنية أطراف آخرون غير المتهم الجنائي (كشخص مسؤول مدنيًا عن فعله أو شركة تأمين) يمكن إدخالهم في الخصومة المدنية استنادًا لقواعد المسؤولية التقصيرية أو العقدية، وهو ما لا يكون مطروحًا على بساط البحث في الجانب الجنائي المحدود بالمتهم ذاته. ومن هنا، حتى مع ارتباط الأساس، هناك مساحة استقلال تخوّل القاضي المدني مجالاً لتقدير التعويض وملاءمته دون قيود من الحكم الجنائي سوى في ثبوت الخطأ ونسبته.
فيما يخص متى يجوز الفصل ومتى يجب الضمّ: لا يوجد نص يلزم المتضرر أو النيابة حتماً بضم الدعوى المدنية إلى الجزائية أو العكس، بل الأمر جوازي للمدعي بالحق المدني ابتداءً. ومع ذلك، يُفضّل الجمع بين الدعويين أمام المحكمة الجزائية متى ما كان ذلك ملائمًا، تحقيقًا للاقتصاد في الإجراءات وسرعة البت وإنهاء النزاع بشقيّه معًا. هذا التفضيل واضح في أنه طالما لا يوجد ما يعوق الفصل في التعويض مع الجزائي، على المحكمة أن تمضي في ذلك الطريق . بالمقابل، يصبح الفصل بينهما واجبًا (أي عدم ضمهما في إجراء واحد) في حالات محددة أهمها:

إذا تطلبت الدعوى المدنية تحقيقات خاصة أو تفصيلات من شأنها إبطاء الفصل في الجزائية: هنا يجب على المحكمة الجزائية استعمال صلاحيّتها بموجب المادة (113) إجراءات جزائية وفصل الدعويين إجرائيًا . مثل ذلك دعاوى التعويض التي تستلزم ندب خبراء لتقدير الأضرار بشكل موسّع أو إدخال أطراف جدد (كشركة تأمين) مما قد يؤجل البت الجنائي. في مثل هذه الحالات، المصلحة العامة في سرعة معاقبة الجاني تُقدَّم على مصلحة البت الفوري في التعويض المدني، فيُترك هذا الأخير إلى حين انتهاء الجنائي أو يُحال إلى المحكمة المدنية .
إذا انعدم الأساس الجزائي للدعوى المدنية: كما في حالة ما إذا تبين للمحكمة الجزائية أن الفعل موضوع الاتهام ليس جريمة (لانطباق سبب من أسباب الإباحة أو لغياب القصد الجرمي مثلًا)، أو أنه لم يثبت وقوعه من المتهم وقضت بالبراءة على هذا الأساس اليقيني. عندها يجب ألا تستمر المحكمة الجزائية بنظر الدعوى المدنية وعليها الحكم بعدم اختصاصها كما أسلفنا ، لأن شرط تبعية الدعوى المدنية (وجود جريمة) لم يعد قائمًا. هذه الحالة ليست مجرد جواز فصل، بل حتمية الفصل لأن الدعويين ما عادا مرتبطين قانونًا: فلا جريمة تابع لها التعويض، بل قد يبقى التعويض ممكنًا كدعوى تقصيرية مستقلة أمام القضاء المدني إن كان للفعل وصف غير جرمي ولكنه خطأ مدني.

 

 

 


الآثار المترتبة على كل خيار (الضمّ أو الفصل): القرار بين ضم الدعوى المدنية إلى الجزائية أو فصلها (سواء باختيار المتضرر أو بحكم القانون) ينشئ نتائج مختلفة على سير العدالة وحقوق الأطراف:

 


في حالة ضمّ الدعوى المدنية إلى الجزائية: تتحقق فوائد عدة، منها توحيد الإجراءات والأدلة مما يخفف العبء على المتضرر إذ لا يضطر لإثبات الخطأ مرتين في محكمتين مختلفتين؛ فالحكم الجنائي بالإدانة يكفي لإثبات ركن الخطأ المدني . كما أن الفصل المشترك يوفّر الوقت والنفقات نسبيًا، إذ تُنظر القضيتان معًا بدلًا من التوالي. كذلك، يُجنب هذا الضمّ خطر صدور أحكام متناقضة، فحكم واحد يصدر في كل من المسألتين. ومن جهة أخرى، كفل القانون حق الدفاع للمتهم عبر منحه كافة ضمانات المحاكمة الجزائية، بل وحتى منحه حق الطعن في شق التعويض أيضًا ضمن طعنه على الحكم الجنائي. ولكن من سلبيات هذا الضمّ أنه قد يؤخّر الفصل في القضية الجزائية إذا كانت مسائل التعويض معقدة. ولهذا وُضع صمام أمان في المادة 113 إجراءات جزائية يتيح استبعاد نظر التعويض مع الجزائي إن تبين تأخُّر الفصل . أيضًا من الاعتبارات العملية أنه في حال انتهت الدعوى الجزائية بالبراءة أو عدم المسؤولية الجزائية، فإن المدعي بالحق المدني يكون قد أضاع وقتًا وجهدًا في المسار الجزائي دون الحصول على تعويض، ويحتاج حينئذ لرفع الأمر مجددًا للقضاء المدني؛ بل وقد يُفاجأ بأن البراءة (إن كانت لنفي الفعل أو عدم نسبته له) تسد عليه طريق التعويض تمامًا . وهنا يُظهر البعض تحفظًا على ضمّ الدعوى المدنية للدعوى الجزائية، إذ قد يربط حقه في التعويض بمصير الدعوى الجزائية وربما تذهب أدراج الرياح إذا لم يُدن المتهم. غير أن هذا التحفّظ منتفٍ جزئيًا في النظام الكويتي بسبب القاعدة التي تسمح بالمطالبة المدنية رغم بعض أحكام البراءة (تلك المبنية على الشك)، وإن كان عليه إعادة السعي أمام محكمة أخرى مما يستغرق وقتًا إضافيًا.
في حالة فصل الدعوى المدنية عن الجزائية: قد يكون الفصل ابتداءً (بأن يختار المتضرر طريق القضاء المدني من البداية) أو لاحقًا (بقرار المحكمة الجزائية تأجيل أو إحالة الدعوى المدنية). في الحالتين، ينتج عن الفصل توزيع زمني للإجراءات؛ فالدعوى الجزائية تسير إلى الفصل فيها أولًا، ثم تأتي الدعوى المدنية بعدها. من منظور تحقيق العدالة الناجزة (السريعة)، هذا الفصل قد يبدو سلبيًا لأنه يعني أن المتضرر لن يحصل على التعويض إلا بعد انتهاء المحاكمة الجنائية بالكامل وما قد يستتبعها من طعون استئنافية أو تمييز. وهذا قد يستغرق فترة طويلة في القضايا الكبرى، مما يؤخر جبر الضرر على المجني عليه. على سبيل المثال، لو كانت الجريمة جناية خطرة تستغرق المحاكمة فيها سنتين أو أكثر، فإن انتظار الفصل الجنائي قبل البدء في التعويض يؤخر حصول الضحية على حقها وربما تتفاقم معاناتها. لكن في المقابل، للفصل مزايا مهمة: إجرائيًا، يُبسّط نظر كل قضية على حدة، فالجزائية تتركز على إثبات الجريمة ومسؤولية المتهم الجنائية دون الانشغال بتقدير التعويض وما يقتضيه من خبرات مالية أو طبية، مما قد يسرّع الفصل الجنائي نفسه. وهذا يحقق مصلحة عامة في كفاءة الردع وسرعة العقاب. ثم تأتي الدعوى المدنية لاحقًا وقد أصبحت معالم المسؤولية أوضح بفضل الحكم الجزائي (إن كان بالإدانة)، أو أصبحت بعض المسائل غير محل نزاع (إذا حسمت الجزائية وقوع الفعل مثلًا). موضوعيًا، الفصل يُتيح أيضًا مرونة أوسع للمتضرر في مطالبة أطراف آخرين بالتعويض قد لا يمكن إدخالهم في الدعوى الجزائية. فحين يرفع دعواه أمام المحكمة المدنية، يمكنه – وفق قانون المرافعات – إدخال ضامن أو متسبب آخر في الضرر وإن لم يكن متهمًا في القضية الجزائية. وبذلك قد يحصل على تعويض أشمل من كافة المسؤولين. كما أن القضاء المدني غير مقيّد – عند بحث مقدار التعويض – بما قدم من أدلة أمام المحكمة الجزائية حصراً؛ إذ يمكن للمدعي المدني تقديم أدلة جديدة بشأن الضرر أو الاستعانة بتقارير خبراء لتقييم الخسائر بصورة أدق، الأمر الذي ربما لا يتسنى بنفس النطاق في المحكمة الجزائية المزدحمة عادةً بالقضايا الجنائية.

 

 


باختصار، قرار الضمّ أو الفصل ينطوي على مقايضة بين السرعة والوحدة من جهة، والتأنّي والشمولية من جهة أخرى. فضمّ الدعويين يسرّع حصول الضحية على حقها (بفرض الإدانة) ويوحّد الحكم، لكنه قد يبطئ البت الجنائي ذاته ويضع حق التعويض رهن نتيجة المحاكمة الجنائية. أما الفصل فيضمن سرعة الفصل الجزائي وربما دقة أكبر في تقدير التعويض لاحقًا، لكنه يطيل أمد التقاضي الإجمالي ويفرض على الضحية انتظارًا أطول وربما خوض جولة قضائية ثانية. ولهذا حرص المشرّع على منح القاضي سلطة تقديرية لفصل الدعوى المدنية عندما تستوجب الضرورة ذلك ، وعلى إبقاء حق المتضرر قائمًا في جميع الأحوال (سواء باختياره المسار المدني أو بتركه الادعاء المدني أمام الجزائي) دون أن يفقد حقه الموضوعي في التعويض .

 

 

 

مقارنة مع بعض الأنظمة القانونيّة الأخرى (المصري والفرنسي مثالًا)

 

 

 

يشترك النظام القانوني الكويتي في هذه المسألة مع كثير من الأنظمة ذات التقليد القانوني المدني (اللّاتيني) في الخطوط العريضة، لكنه يختلف عن أنظمة أخرى كالنظام الأنجلوسكسوني. فيما يلي مقارنة موجزة تبرز أوجه التشابه والاختلاف:

 


النظام المصري: تتطابق أحكام القانون الكويتي إلى حد كبير مع نظيرها في مصر، نظرًا لجذور التشريع الكويتي المستمدة من القانون المصري. فالقانون المصري أيضًا يُقرّر مبدأ ازدواج المسارين الجنائي والمدني ويجيز للمتضرر إقامة دعوى مدنية تابعة للدعوى الجنائية أمام المحكمة الجنائية (وفقًا للمادة 251 من قانون الإجراءات الجنائية المصري). كما أن القاضي الجنائي المصري، كالكويتي، يفصل في التعويض ضمن حكمه الجنائي، إلا إذا رأى أن ذلك يستلزم تأخير الفصل فيجوز له إحالة الدعوى المدنية إلى المحكمة المدنية المختصة أو حفظها لحين البت الجنائي (وهو ما يقابل المادة 113 إجراءات جزائية الكويتية). ويعرف القانون المصري أيضًا قاعدة “وقف الدعوى المدنية لحين الفصل في الجنائية” المنصوص عليها في المادة 265 إجراءات جنائية والمادة 45 من قانون الإثبات المصري. وهذه النصوص مماثلة في مضمونها لما تقدّم من مواد كويتية، وتُحتّم وقف نظر التعويض المدني حتى يصدر حكم جنائي بات بشأن الواقعة المشتركة . كذلك تقرر المادة 456 إجراءات جنائية مصري والمادة 102 من قانون الإثبات هناك حجية الأحكام الجنائية الباتّة أمام القضاء المدني ، بنفس التفصيل الذي أخذ به القانون الكويتي (حجية في ثبوت الجريمة على من صدر عليه الحكم بالإدانة، وعدم حجية لحكم البراءة إلا في نفي الفعل أو نسبته) . وقد أكدت محكمة النقض المصرية هذا المبدأ بقولها: “شرط الحكم بالتعويض المدني رغم القضاء بالبراءة ألا تكون البراءة قد بُنيت على عدم حصول الواقعة أصلاً أو عدم صحتها أو عدم ثبوت إسنادها إلى المتهم، لأنه في هذه الأحوال لا تملك المحكمة أن تقضي بالتعويض…” – وهو عين ما أخذت به محكمة التمييز الكويتية كما سلف. بذلك نستطيع القول إن النظام المصري والكويتي يسيران في اتجاه واحد في هذه المسألة، من حيث إتاحة الادعاء المدني أمام الجزائي، وإلزام وقف المدني حتى انتهاء الجزائي، واعتبار الحكم الجنائي حجة في المدني في حدود معيّنة.
النظام الفرنسي: يشكّل المصدر التاريخي لكثير من هذه القواعد في القوانين العربية، ولكنه شهد تطورًا عبر الزمن. كان القانون الفرنسي التقليدي (في القرن العشرين وما قبله) يأخذ بمبدأ الرابطة المطلقة بين الدعوى الجنائية والمدنية، ومقولتهم الشهيرة “Le criminel tient le civil en état” والتي تعني “الجنائي يعلق المدني”. فالقاضي المدني في ظل هذا المبدأ كان ملتزمًا بالكامل بما يصدر عن القاضي الجنائي من أحكام، سواء بالإدانة أو البراءة، ولا يملك أن يحيد عنها. كذلك كان يتوجب تعليق أي دعوى مدنية منظورة إلى حين انتهاء الدعوى الجنائية المتعلقة بنفس الوقائع. وقد طبّق المشرّع الفرنسي تقليديًا حجية مطلقة للأحكام الجنائية أمام القضاء المدني، فلا يستطيع المضرور الحصول على تعويض إذا بُرّئ الجاني جنائيًا حتى لو كانت البراءة لعدم كفاية الأدلة. إلا أن القانون الفرنسي عرف تطورًا مهمًا منذ أواخر القرن العشرين، حيث اتجه إلى تخفيف حدة الارتباط المطلق بين الدعويين. فابتداءً من ثمانينيات القرن الماضي تقريبًا أدخل المشرّع الفرنسي تعديلات تسمح بهامش أكبر لاستقلال الدعوى المدنية عن بعض الأحكام الجنائية، لاسيّما أحكام البراءة التي لا تنفي حدوث الواقعة. وبات القاضي المدني في فرنسا غير مقيد بحكم البراءة إذا كانت مبنية على الشك، فيجوز له نظر دعوى التعويض استنادًا للخطأ المدني وفق معيار الإثبات المدني (وهذا قريب جدًا من النهج الكويتي/المصري الحالي المبيّن آنفًا) . كذلك قلّصت التعديلات من نطاق وجوب وقف الدعوى المدنية، فأصبح إمكانية تعليقها أمرًا مرهونًا بتقدير المحكمة وظروف كل قضية، مع إعطاء الأولوية للبت في الحقوق المدنية للضحايا في بعض الحالات حتى قبل حسم الدعوى الجنائية – خاصة إذا تأخر البت الجنائي. غير أن الأساس العام في فرنسا لا يزال يشجّع على إقامة الدعوى المدنية بالتبعية أمام المحكمة الجزائية (الادعاء بالحق المدني partie civile)، فهذا الطريق يوفر للضحية مزايا إجرائية مهمة مثل تحريك الدعوى الجنائية نفسها أحيانًا. ومع ذلك، حدث تحول نحو نوع من الاستقلال النسبي؛ فمثلًا نص تعديل في قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي على أنه إذا قرر قاضي التحقيق حفظ الدعوى الجنائية لعدم كفاية الأدلة، فيمكن للضحية تحويل دعواه مباشرة إلى المحكمة المدنية بدلاً من الإصرار على متابعة المسار الجنائي. وخلاصة القول، إن القانون الفرنسي الحديث اقترب كثيرًا من نفس المضمون الذي تبناه القانون الكويتي: ارتباط قانوني قوي بين الدعويين من حيث المبدأ، لكن بحجية نسبية للأحكام الجنائية أمام المدني (خاصة بالنسبة لأحكام البراءة) ، وبفسح المجال أمام الضحية للمطالبة بحقه مدنيًا حتى لو تعذر العقاب الجنائي.
النظام الأنجلوسكسوني (الأخذ بالقانون العام): تختلف الصورة بشكل ملحوظ في البلدان التي تتبع نظام Common Law مثل الولايات المتحدة وبريطانيا. فهناك فصل تام بين الدعوى الجنائية والدعوى المدنية من حيث الإجراءات والموضوع. فلا توجد فكرة “الادعاء المدني التبعي” داخل المحاكمة الجنائية؛ إذ تتولى النيابة أو الادعاء العام القضية الجنائية بشكل مستقل لتحقيق المصلحة العامة فقط، بينما يباشر المتضرر دعوى مدنية منفصلة أمام المحاكم المدنية للمطالبة بالتعويض. وعادةً ما تجري المحاكمتان بمعزل عن بعضهما زمانًا ومكانًا، بل من الممكن أن تنظر الدعوى المدنية قبل انتهاء الجنائية أو بالعكس دون أي قاعدة تمنع ذلك، لأن كل منهما يعتبر مستقلًا عن الآخر. أيضًا القاضي المدني في هذه الأنظمة غير مقيّد نهائيًا بالحكم الجنائي؛ فالحكم الجنائي (وخاصة حكم البراءة) ليست له حجية ملزمة أمام محكمة المدني، وإن كان حكم الإدانة الجنائية قد يُقبل كقرينة قوية على وجود الخطأ المدني لكن ليس كأمر واجب الاتباع قانونًا. وتشهد ممارسات القضاء الأمريكي مثلاً على ذلك: حيث يُمكن لشخص أن يُبرَّأ جنائيًا (لعدم ثبوت الجرم بما يفوق الشك المعقول) ثم يُحكم عليه بالتعويض مدنيًا لنفس الواقعة بمعيار ترجيح الأدلة (Preponderance of evidence) الأدنى. وأشهر مثال على ذلك قضية O.J. Simpson في الولايات المتحدة، الذي بُرّئ من تهمة القتل جنائيًا، ثم أُلزم بتعويضات مالية باهظة في دعوى مدنية أقامها ذوو الضحايا . ويُعزى هذا التباين إلى الاختلاف الجوهري في فلسفة النظامين: فالقانون الأنجلوسكسوني يعطي استقلالًا كاملًا للدعوى المدنية بوصفها حقًا شخصيًا منفصلًا، ويرى أن المعايير المختلفة (جنائي صارم ومدني مرن) تبرر اختلاف النتائج دون حرج. ومع ذلك، تُظهر هذه الأنظمة أيضًا حرصًا على تفادي التضارب الفج في الأحكام؛ فعلى المستوى العملي، إذا أدين شخص جنائيًا بواقعة ما فإنه غالبًا ما يختار التسوية أو يعترف بالمسؤولية المدنية تفاديًا لدعوى مدنية خاسرة، وإن لم يكن ملزمًا قانونًا بالاعتراف. كما أن القضاء المدني قد يوقف النظر أحيانًا في دعوى تعويض كأمر تقديري إلى حين انتهاء محاكمة جنائية جارية كي لا يتداخل المساران، لكن هذا وقف مرجعه اعتبارات ملاءمة وليس نصًا ملزمًا كما هو الحال في الكويت ومصر.

 

 


مجمل هذه المقارنة يظهر أن الكويت ومصر ومن نهج نهجهما يتبعون النظام “المختلط” المستمد من الفرنسي التقليدي: ادعاء مدني تابع، الجنائي يوقف المدني، وحجية شبه مطلقة للجنائي على المدني (مع استثناءات محدودة لصالح الضحية). أما فرنسا الحديثة فاتجهت نحو اعتدال أكبر في تلك القواعد، وإن ظلت تشترك في الأصل بوجود الادعاء المدني التبعي. في حين أن الأنظمة الأنجلوسكسونية تختلف جذريًا بتبنيها الفصل المطلق بين الدعويين وعدم تقيد أحدهما بالآخر قانونًا . ومع ذلك، ورغم هذه الاختلافات النظرية، يبقى الهاجس المشترك في مختلف الأنظمة هو تحقيق العدالة للمتضرر دون التضحية بضمانات المحاكمة العادلة للمتهم، وتجنب ازدواجية القرارات المتعارضة إن أمكن.

 

 

 

تحليل نقدي قانوني: أثر فصل الدعوى المدنيّة عن الجزائيّة على العدالة وحقوق الأطراف

 

 

 

أثار نظام الفصل بين الدعوى المدنية والجزائية – أو بالأحرى تنظيم ارتباطهما كما تقدم – جدلًا فقهيًا حول مدى تحقيقه العدالة الناجزة (السريعة والفعّالة) ومدى تأثيره على مصلحة كل من المدعي (المجني عليه) والمدعى عليه (المتهم أو المسؤول مدنيًا). فيما يلي مناقشة نقدية لأهم الجوانب:

 


1. بشأن العدالة الناجزة وسرعة الفصل في الحقوق: إن أحد أهداف النظام القضائي هو سرعة الفصل في المنازعات لتحقيق الردع من جهة، وجبر الضرر من جهة أخرى. من هذا المنطلق، يمكن القول إن الجمع بين الدعوى المدنية والجزائية أمام محكمة واحدة فيه إيجابيات واضحة لتحقيق العدالة الناجزة: فالمجني عليه يحصل – في حال ثبوت الجريمة – على حقه في التعويض بدون حاجة للانتظار ورفع دعوى جديدة . وهذا يختصر الزمن الإجرائي بدرجة كبيرة، خاصة إذا قورن بحالة الفصل التام كما في الأنظمة الأنجلوسكسونية حيث قد يُفصل في الجنائية ثم يُعاد التقاضي في المدنية. بالإضافة إلى ذلك، الجمع يوفّر على الدولة والمتقاضين موارد كانت ستُنفق في دعوى ثانية (رسوم قضائية، أتعاب، وقت المحاكم) – أي أنه يحقق كفاءة اقتصادية في العملية القضائية. وقد يكون لهذا مردود نفسي إيجابي على الضحايا إذ يشعرون أن العدالة قد تحققت لهم بالكامل وفي وقت مناسب.

 


بيد أن الجانب الآخر من الصورة هو ما إذا كان هذا الجمع يُبطئ البت في الدعوى الجزائية نفسها، ومن ثم يؤخر العدالة الجنائية. الواقع أن ضمّ التعويض قد يؤدي في بعض القضايا المعقدة إلى إطالة أمد المحاكمة الجنائية؛ فمثلًا إذا استوجب تقدير التعويض انتظار شفاء المجني عليه لتقدير العجز النهائي، أو استلزم ندب خبير هندسي لتقييم أضرار مالية جسيمة، فإن جلسات المحاكمة قد تتأجل في انتظار هذه النتائج، مما يعني تأخر الفصل في موضوع التجريم والعقاب. وهذا ما تنبّه إليه المشرّع الكويتي فأعطى المحكمة صلاحية الفصل – أي إرجاء التعويض – حتى لا يتعطل الفصل في الدعوى الجزائية . على أن استخدام هذه الصلاحية يعود لتقدير المحكمة، وربما تتأخر في ممارستها أملاً في حسم الأمر كله مرة واحدة. في جميع الأحوال، يظل هاجس زمن التقاضي حاضرًا: فإذا فُصلت الدعوى المدنية تمامًا (كوقفها لحين البت الجنائي) فإن الضرر يتأخر جبره. وإذا نُظرت مع الجنائي فقد يتأخر الجنائي نفسه، خاصة في الجرائم الكبيرة التي تكثر فيها مطالبات المتضررين (مثل جرائم الأموال العامة التي قد يتدخل فيها عشرات المدعين المدنيين). لذا يمكن القول إن التشريع الحالي يسعى إلى تحقيق توازن بين الأمرين: فهو يشجع على ضمّ الدعويين توفيرًا للوقت، لكنه يسمح بفصلهما تجنبًا لأي بطء غير مبرر . ومع ذلك، بعض الانتقادات الفقهية ترى أنه ربما كان من الأفضل إيجاد آلية لتعجيل صرف تعويضات مؤقتة للمتضررين في القضايا الجزائية طويلة الأمد، ريثما يصدر الحكم النهائي. مثل هذه الآلية (كتقرير دفعات مسبقة أو تعويض وقتي) معمول بها في بعض البلدان لضمان عدم الانتظار لسنوات دون أي جبر للضرر، وبما لا يضر بمبدأ افتراض البراءة (كأن يكون من صندوق عام أو بوليصة تأمين). حاليًا، المادة 115 إجراءات جزائية تقدم حلاً جزئيًا عبر تمكين المحكمة من الحكم بالتعويض من تلقاء نفسها في حالة الإدانة ، ولكن ذلك مشروط بتعهد المتضرر بعدم المطالبة بأي زيادة، مما قد لا يرضي البعض. كما أن هذا الحكم لا يساعد قبل الإدانة أو في حالة براءة لاحقة بناء على الشك.

 


2. بشأن التأثير على حقوق المدعي (المتضرر): المتضرر أو المدعي بالحق المدني له مصلحة رئيسية هي الحصول على تعويض عادل وفي أقرب وقت تعويضًا عمّا لحقه من ضرر. نظام الربط الحالي يخدم هذه المصلحة من زاوية أنه يتيح له الاستفادة من المسار الجنائي: فالنيابة العامة تقوم بتحريك الدعوى وجمع الأدلة وإثبات وقوع الفعل ضد المتهم، وهذا في جوهره يخدم قضية المدعي المدني أيضًا. إذ بمجرد صدور حكم بالإدانة، يكون طريق التعويض ممهدًا بشكل كبير . كذلك أعطاه القانون الكويتي دورًا فعالًا في المحاكمة الجنائية كطرف منضم، فيحق له تقديم أدلته فيما يخص الضرر والمشاركة (عبر محاميه) في مناقشة الشهود وطرح الأسئلة التي يمكن أن تسلط الضوء على مسؤولية المتهم، وإن كان لا يستطيع التطرق لمسائل خارج نطاق الاتهام الجنائي كما ذكرنا. ومن الحقوق المهمة للمدعي المدني أيضًا حقه في الحصول على نسخة من ملف القضية الجزائية واستعمال ما فيه من أدلة في دعواه المدنية، سواء المنظورة تبعًا أو لاحقًا. بل إن بعض الأحكام تجيز له الاستفادة من الحكم الجنائي نفسه كدليل أمام المحكمة المدنية في حال اضطر للجوء إليها بعد البراءة. وبفضل مبدأ الحجية، فعلى الأقل إذا أدين المتهم لن يضطر المتضرر لإعادة إثبات الخطأ أمام المحكمة المدنية، مما يخفف عبء الإثبات عنه .

 


مع ذلك، تُواجه حقوق المدعي المدني بعض التحديات في هذا النظام. أولها، أنه رَهْنٌ بالإرادة الإجرائية للنيابة العامة: فإن قررت النيابة حفظ الشكوى جزائيًا أو لم تتوصل لأدلة كافية للاتهام، سيُضطر المتضرر إلى اللجوء مباشرة للمحكمة المدنية، وربما يفقد ميزة كانت ستتاح لو حُركت الدعوى الجزائية (مثل سلطة التحقيق الإجباري عن طريق النيابة أو الشرطة). صحيحٌ أنه في الكويت يملك المتضرر نظريًا تحريك الدعوى الجنائية عن طريق الادعاء المباشر كمدعٍ بالحق المدني أمام المحكمة الجزائية (على غرار النظام الفرنسي)، لكن عمليًا هذا الطريق نادر ويصطدم بسلطة النيابة باعتبارها صاحبة الاختصاص الأصيل بتحريك الدعوى الجنائية. ثانيها، أن المدعي المدني في حال سلوك المسار الجزائي يصبح مقيّدًا بإجراءات الدعوى الجنائية التي قد تطول لأسباب لا دخل له بها (كطلبات دفاع المتهم، أو تأجيلات مرتبطة بالإجراءات الجنائية)، مما قد يؤخر حصوله على حقه. كما أنه لا يملك استئناف الحكم الجزائي في شقه الجنائي إذا صدر بالبراءة، لأن ذلك منوط بالنيابة فقط؛ وبالتالي إذا تراخت النيابة في الطعن أو رأت عدم الطعن، يُحرم المتضرر من محاولة تغيير نتيجة المحاكمة الجنائية التي خسرها، ويضطر إلى اللجوء للدعوى المدنية مع ما يتطلبه ذلك من إعادة البناء من جديد. هذا الأمر قد يشعر معه المتضرر بشيء من العجز، إذ رغم كونه طرفًا مدنيًا فإن مصير تعويضه يتقرر فعليًا على ضوء نشاط النيابة العامّة وإثباتها للتهمة. وهذا يطرح تساؤلاً: هل تكفي حقوق المدعي المدني الحالية أم ينبغي تعزيزها؟ بعض الفقه يقترح مثلاً منح المدعي المدني حق استئناف الحكم الجزائي في الجانب المدني فقط حتى لو بُرئ المتهم، بحيث يُعرض الأمر على درجة أعلى ربما ترى ثبوت الخطأ المدني رغم البراءة (كما هو الحال في فرنسا سابقًا، حيث كان الاستئناف المدني ممكنًا ولو لم تطعن النيابة في البراءة، مما يعطي فرصة ثانية للمتضرر). إلا أن نظامنا لا يأخذ بذلك، وربما مبرره أن المحكمة المدنية هي المكان الأنسب لهذه المحاولة الثانية. أيضًا من زاوية أخرى، إذا اختار المتضرر الطريق المدني منذ البداية، فعليه المجازفة بإثبات الخطأ دون مساعدة حكم جنائي، وهذا قد يكون صعبًا في بعض الحالات (كجرائم النصب المعقدة مثلًا). لكنه على الأقل لن ينتظر طويلاً رهن البت الجنائي. في المحصّلة، النظام الحالي يوازن بين منح المجني عليه فرصة سهلة نسبيا لنيل التعويض (عبر الطريق الجزائي) مع إبقاء باب القضاء المدني مفتوحًا له دومًا. ولعل أهم ضمانة لحق المتضرر أن المشرّع اعتبر قاعدة وقف المدني للجنائي من النظام العام ، فلا يُمكن للمتهم أو غيره عرقلتها، وبالتالي لن يُفاجأ المتضرر بحكم مدني يصدر قبل البت الجزائي. هذه الحماية تفيده بأن حقه لن يُرفض مدنيًا لمجرد انتظار الحكم الجنائي؛ بل يتم الحفاظ على وضع الدعوى معلّقة إلى أن يقول القضاء الجزائي كلمته التي غالبًا ستدعمه في مطالبه.

 


3. بشأن التأثير على حقوق المدعى عليه: أما المدعى عليه في هذا السياق فيشمل المتهم جنائيًا وكل من يُطالب مدنيًا بالتعويض (كالمسؤول مدنيًا). لهذا الطرف حقوق أساسية يجب صونها، وأهمها حق الدفاع وافتراض البراءة جنائيًا، وحقه ألا يُحاسب على الفعل الواحد مرتين عقابيًا (منع الازدواج الجزائي). نظام الارتباط الكويتي عمومًا يراعي هذه الحقوق: فالمتهم يُحاكم أمام القضاء الجزائي وفق ضمانات المحاكمة العادلة، ولا يجوز تنفيذ أي عقوبة أو تعويض عليه دون حكم قضائي واجب النفاذ. وإذا اجتمعت الدعوى المدنية مع الجزائية، فللمتهم فرصة الدفاع عن نفسه في مواجهة الاتهام الجزائي وأيضًا ادعاء التعويض، إذ يستطيع من خلال محاميه تفنيد أدلة الضرر أو العلاقة السببية كما يفعل مع عناصر الجريمة. بل إن نظر التعويض أمام نفس محكمة الجناية أو الجنحة قد يكون أنفع له؛ إذ غالبًا ما ينتدب له محام في الجنايات إذا عجز عن توكيل، وبالتالي لا يجد نفسه أمام عبء توكيل محام آخر للدعوى المدنية منفصلة. أضف أن المحكمة الجزائية إذا أصدرت حكمًا لصالحه (بالبراءة) فإنها في الغالب ستقضي بالتبعية برفض الدعوى المدنية أو عدم اختصاصها ، وهذا يحميه من احتمال صدور حكم مدني متسرع قبلاً. أيضًا من مصلحته أن حكم البراءة – إن استند إلى النفي القاطع – يمنع أي دعوى مدنية لاحقة ، مما يجعله مطمئنًا لحسم النزاع بشكل نهائي؛ فلا يبقى مهددًا بملاحقة أمام المحاكم المدنية رغم إثبات براءته جنائيًا.

 


مع ذلك، قد يشعر المدعى عليه ببعض الغبن في حالات معينة، منها مثلاً: إذا بُرئ لعدم كفاية الأدلة، يظل مهددًا بدعوى مدنية لاحقة قد تنتهي بإلزامه بتعويض كبير بناءً على تقييم مختلف للأدلة. هنا قد يرى المدعى عليه الأمر تناقضًا – كيف أُبرَّأ كمجرم وأدان كمخطئ؟ – لكنه واقع جائز قانونًا . غير أن هذا التناقض الظاهري مردّه اختلاف معايير الإثبات كما أوضحنا، وهو أمر تتفهمه معظم الأنظمة. وللمقارنة، في النظام الأنجلوسكسوني لا تعتبر ذلك خرقًا لحقوق المتهم، بل قاعدة مقبولة. ومن منظور حقوقي، لا يُعد إلزام الشخص بتعويض الضحية رغم براءته جنائيًا مخالفة لمبدأ عدم المحاكمة عن الفعل نفسه مرتين (Double Jeopardy)، لأن التعويض المدني ليس عقوبة بل جبر ضرر. وقد أكدت محكمة النقض المصرية مثلًا هذا المعنى بقولها إن قوام المسؤوليتين الجنائية والمدنية واحد من حيث ثبوت الفعل ونسبته، لكن الغاية مختلفة ، وبالتالي الحكم المدني ليس “إدانة ثانية” بل إلزام مدني مشروع. نقطة أخرى هي حق المدعى عليه في حسم النزاع سريعًا: ربما يكون المدعى عليه نفسه راغبًا في إنهاء الملف برمته في منصة واحدة لتفادي إطالة الأمر (خاصة إن كان متوقعًا للإدانة). في النظام الكويتي، إذا رغب المتهم في تسوية الجانب المدني فقد يعرض الصلح أو تعويضًا رضائيًا للمجني عليه لإسقاط ادعائه المدني؛ وهذا ممكن قانونًا قبل صدور الحكم النهائي. وإذا حصل الصلح وأسقط المدعي المدني دعواه، فإن ذلك لا يوقف الدعوى الجزائية لكن قد يُعتبر من أسباب الرأفة في العقوبة أو قد يؤدي لوقف تنفيذها في بعض الجرائم وفقًا لقوانين خاصة (مثل بعض جنح الصحافة أو الجنح البسيطة). بالتالي لدى المدعى عليه خيار محاولة إنهاء الخصومة المدنية مبكرًا إن أمكنه تعويض المجني عليه، مما قد يفيده بتخفيف العبء المعنوي وربما القضائي عنه. النظام الكويتي لم ينص صراحةً في قانون الإجراءات على أثر الصلح المدني على الدعوى الجزائية عموماً، لكن توجد نصوص متفرقة في قوانين خاصة تتيح ذلك في جرائم معينة. في الجرائم التي لا يشملها تصالح قانوني، يبقى للمتهم فائدة معنوية على الأقل من تسوية الجانب المدني (إظهار الندم وجبر الضرر ربما ينعكس على تقدير القاضي للعقوبة ضمن حدودها).

 


بالنسبة للمسؤول المدني (الذي لم يرتكب الجريمة شخصيًا لكن يُطالب بالتعويض – كشركة التأمين أو الولي عن فعل قاصر)، فإن انضمامه للدعوى الجزائية وفق المادة 112 إجراءات جزائية يحفظ حقه في المشاركة بالدفاع. من زاوية حقوقه، قد يُفضّل أحيانًا لو فصلت دعواه عن الجزائية، خاصة إن كان لديه دفع مدني صرف (كالدفع بعدم التغطية التأمينية مثلاً) يخشى ألا توليه المحكمة الجزائية الاهتمام الكافي كون تركيزها الأساس على الجانب الجنائي. لكن يمكن للمسؤول المدني دائمًا طلب التأجيل لحين تقديم مستنداته أو حتى دفع بعدم الاختصاص إن لم تتوفر شروط المادة 111 . ومحكمة التمييز أوجبت عدم الزج بمسؤول مدني أو دعوى مدنية أمام الجزائي دون مسوغ قانوني ، وهذا في صالح أي طرف مدعى مدنيًا ضمانًا لمحاكمته أمام قاضيه الطبيعي (القضاء المدني) إذا لم ينطبق الاستثناء.

 


4. مدى تحقيق التوازن بين حق المجتمع وحق الأفراد: لا يمكن إغفال أن نظام الجمع أو الفصل بين الدعويين يهدف أيضًا إلى تحقيق التوازن بين حق المجتمع في العقاب السريع للجناة، وحق الأفراد المتضررين في التعويض السريع. من جانب المجتمع، هناك مصلحة في أن لا تتعطل عجلة العدالة الجنائية بسبب قضايا التعويض، خصوصًا إذا كانت القضايا الجنائية تمس الأمن العام أو النظام العام. النظام الكويتي بحرصه على منح الأولوية لحسم الجزائي (مثل نص المادة 113) يراعي هذا الجانب . ومن جانب الأفراد، ثمة حاجة بأن لا تطغى اعتبارات العقاب على مصالح الضحايا في جبر ضررهم. والتشريع الكويتي أبدى اهتمامًا بالضحايا عبر تبنيه مؤسسة الادعاء المدني ومنحهم صوتًا في المحاكمة. ومع ذلك، قد يبرز نقد بأن الإجراءات تظل جزائية الطابع، بمعنى أن القاضي الجزائي قد لا يمنح ملف التعويض نفس العناية التي يمنحها للجريمة ذاتها، أو قد يميل – بحكم تخصصه – إلى تضييق التعويضات أو رفض بعضها لاعتبارات يراها بينما القاضي المدني ربما كان سيتوسع في التقدير. هذا ممكن نظريًا، لكن الواقع العملي أن المحاكم الجزائية في الكويت اعتادت على نظر التعويضات التابعة وأصدرت أحكامًا معتبرة فيها، بل أحيانًا تلجأ لاستعمال السلطة المخولة لها في المادة 115 لتعويض المتضرر تلقائيًا . ومع ذلك، عند وجود تعقيدات، فهي لن تتردد في إحالة الأمر للمحكمة المدنية (وقد ذُكر في أعمال المحاكم أن إحالات تمت تطبيقًا للمادة 113 في قضايا معقدة تجاريًا). وللمتضرر دائمًا خيار الاستئناف على مقدار التعويض الصادر من المحكمة الجزائية أمام محكمة الاستئناف (على اعتبار أنه جزء من الحكم الصادر، فيطعن فيه ضمن استئناف الدعوى الجزائية من قبله كمدع مدني). وهذا يضمن له درجة ثانية من نظر موضوع التعويض، وهي ميزة إضافية بالمقارنة مع الطريق المدني المستقل الذي قد لا تتاح فيه درجتان كاملتان إذا كانت قيمة الدعوى ضمن حدود الدرجة الأولى فقط.

 


5. التوصيات والبدائل المحتملة: في ضوء هذا التحليل، يمكن طرح بعض الأفكار النقدية والتطويرية. لقد نجح النظام الكويتي إجمالًا في توفير إطار مرن يوازن بين ارتباط الدعويين وفصلهما، فلا هو اندماج كامل يقيّد حقوق الضحية (كما كان الحال في فرنسا قديمًا مع البراءة المطلقة الحجية)، ولا هو انفصال مطلق يُرهق المتقاضين (كما في أمريكا). إنما يجمع أفضل ما في النهجين إلى حد بعيد. ومع ذلك، تبقى مسألة طول الإجراءات مثار قلق مشروع، خصوصًا إذا علمنا أن الدعاوى الجنائية الخطيرة قد تستغرق سنوات لحسمها بحكم بات في التمييز. هنا قد يكون من المجدي التفكير في تعزيز دور الوسائل البديلة أو الإجراءات الموازية لتسريع حصول المتضرر على حقه: مثل تفعيل صناديق حكومية لتعويض ضحايا بعض الجرائم بشكل عاجل ثم تحل الدولة محلهم في الرجوع على الجاني (وهذا معمول به في بعض الجرائم كالإرهاب)، أو تشجيع الصلح الجنائي مقابل تعويض المجني عليه في جرائم محددة (وهو ما بدأت بعض التشريعات العربية تأخذ به تحت مسمى “نظام المصالحة” أو “التسوية” الجنائية). مثل هذه البدائل يمكن أن تخفف من الآثار السلبية لأي فصل بين الدعويين. كذلك، قد يكون من المفيد توعية المتضررين بحقوقهم الإجرائية، فالكثيرون ربما لا يدركون أنهم إذا لم ينجحوا عبر الطريق الجزائي يمكنهم التحول للطريق المدني، أو قد لا يعرفون شروط حجية الحكم الجنائي، مما يسبب إحباطًا أو خطوات قانونية غير محسوبة. لذا ينصح بعض الباحثين بإصدار أدلة إرشادية للمجني عليهم توضح خياراتهم بين المسارين ومزايا ومخاطر كل منهما. كما أن تدريب القضاة ووكلاء النيابة على إدارة قضايا الادعاء المدني بفاعلية، والتنسيق بين النيابة والمدعين المدنيين (مثلاً بإطلاعهم على سير التحقيق) من شأنه تحقيق استفادة قصوى من النظام الحالي.

 


الخلاصة: يوفر نظام الفصل والارتباط بين الدعوى الجزائية والمدنية في القانون الكويتي إطارًا متوازنًا يسعى لتحقيق العدالة لكل الأطراف: فيحمي المتهم من ازدواج الإجراءات وضمان عدم تعارض الأحكام، ويتيح للمجني عليه طريقًا سريعًا – إلى حد ما – لنيل تعويضه مستفيدًا من القوة الإثباتية للعملية الجنائية. ورغم بعض التأخير الذي قد يصيب حق الضحية نتيجة ضرورة انتظار الحكم الجنائي، فإن معظم الأحكام والمبادئ القضائية تستهدف تقليص هذا التأخير وضمان أن لا يضار المتضرر دون تعويض. وفي المحصلة، عندما تُطبق هذه القواعد بحكمة من قبل القضاء، فإنها تؤدي إلى عدالة ناجزة نسبيًا: ناجزة في كونها شاملة لكل جوانب القضية (جنائيًا ومدنيًا)، وإن لم تكن دوما سريعة كفاية بمعيار الزمن المطلق. يظل التحدي ماثلًا في التطوير المستمر لهذه المنظومة بما يُحقق أنجع حماية لحقوق الضحايا دون الإخلال بحقوق الدفاع للمتهمين أو فعالية الردع الجنائي. وبذلك يبقى الفصل بين الدعوى المدنية والجزائية في الكويت آلية قانونية مرنة تهدف إلى تحقيق العدالة في صورتها الكاملة – عقاب للمجرم وإنصاف للمجني عليه – ضمن إطار من الضمانات الإجرائية والتوازنات التي استقر عليها القانون والقضاء .

© جميع الحقوق محفوظة. 2025 بوابة القوانين فى دولة الكويت