أحصائية باعداد القوانين والتشريعات
قوانين : 434 (ق)
-
مواثيق واتفاقيات : 20 (ق)
-
لوائح وقرارات : 460 (ق)

الوسيط في شرح القانون المدني الجديد

المحرر منذ أسبوع 145
الوسيط في شرح القانون المدني الجديد

```html

 

الوسيط في شرح القانون المدني الجديد

نظرية الالتزام بوجه عام: مصادر الالتزام

العقد – العمل غير المشروع – الإثراء بلا سبب – القانون

تأليف:

عبد الرازق أحمد السنهوري

دكتور في العلوم القانونية ودكتور في العلوم السياسية والاقتصادية

ودبلوميه من معهد القانون الدولي بجامعة باريس

1952

دار النشر للجامعات المصرية

16 شارع عدلي باشا – تليفون 40995

القاهرة


كلمة افتتاحية

هذا هو الوسيط أقدمه بين يدى رجال القانون أقوى ما أكون أملا فى أن يملأ فراغا وأن يسد حاجة. وقد اعتزمت فيه بمشيئة الله أن أشرح القانون المدنى الجديد.

والوسيط هو الوسط ما بين الوجيز والمبسوط. ولئن جعل الله في العمر بقية ، وأمدنى بعون من عنده ، أخرجت بعد الوسيط الوجيز ، ثم استعنت برفقة من زملائى في إخراج المبسوط. فتتم بذلك حلقات ثلاث ، ينتظمها عقد واحد. والوسيط هو واسطة هذا العقد. تجمله فيصبح وجيزاً. وتفصله فيصير مبسوطاً. ومن أجل ذلك اخترت أن أبدأ به. فهو أوفى من الوجيز فى سد حاجات العلم والعمل. وهو أدنى من المبسوط للباحث الذى لا يملك غير وقت محدود.


وبعد فطابع القانون المدنى الجديد الاعتدال. فهو يرضى الاستقرار ، ويطاوع التطور. والاستقرار يتمثل فى وصل الحاضر بالماضى. والتطور يترآى فى تطلع الحاضر إلى المستقبل.

وإيذاناً بأن الحاضر متصل بالماضى ، عمدت فى هذا الكتاب إلى أمرين:

(أولهما) أننى طفقت أشير إلى القضاء والفقه المصريين فى عهد القانون المدنى القديم كما لو كانا قد نبتا فى عهد القانون المدنى الجديد. وترانى أشير إليهما دون أن أشعر القارئ بأن القانون المدنى قد تغير ، ودون أن أنبه إلى أن القضاء والفقه اللذين أستند إليهما قد قاما فى عهد القانون المدنى القديم. وأوردت بذلك أن أدل على أن ما كان يصلح قضاء وفقهاً فى الماضى لا يزال صالحاً حتى اليوم. فالسلسلة لم تنقطع حلقاتها ، والعهد الحاضر لا يزال متصلا بالعهد الماضى أوثق الاتصال. وتعمدت أن أنقل عن كتابى فى نظرية العقد وعن كتابى الآخر فى النظرية العامة للالتزامات كثيراً مما اشتملا عليه من الآراء الفقهية ومن قضاء المحاكم المصرية ، فى العبارات ذاتها التى وردت فى الكتابين ، بعد توفير ما ينبغى من الملاءمة ليساير الكتاب الجديد أحكام القانون الجديد. كل ذلك حتى أصل الحاضر بالماضى ، وحتى أثبت من طريق عملى أن الكتاب الذى كان يصلح مرجعاً فى القانون القديم لا يزال صالحاً فى كثير من نواحيه مرجعاً فى القانون الجديد لم يؤذن بثورة ، ولم يحدث انقلاباً. وإذا كنت قد رجعت عن بعض الآراء الفقهية التى سبق لى أن اعتنقتها فى الكتابين اللذين أسلفت ذكرهما ، فتلك سنة العقل البشرى ، لا يقيم على خطة واحدة من النظر. فهو لا يستطيع أن يستوعب الحقائق مطلقة. ويدرك اليوم ما لم يكن بقادر على إدراكه بالأمس. ولما كان القانون الجديد – فيما استحدث من النصوص والأحكام – لا يزال بكراً لم يرد فيه قضاء أو فقه ، فقد استعضت عنهما بما نقلت من الأعمال التحضيرية. فأرخت كل نص من نصوص القانون الجديد منذ كان النص فى المشروع التمهيدى ، متعقباً إياه وقد انتقل إلى المشروع النهائى ، ثم إلى مجلس النواب ، ثم إلى لجنة القانون المدنى بمجلس الشيوخ ، ثم إلى مجلس الشيوخ ، حتى أصبح هو نص القانون الجديد. نقلت ما جاء فى المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدى فى صدد هذه النصوص. واعتمدت فى كل ذلك على مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدنى الجديد التى أصدرتها وزارة العدل فى أجزاء سبعة.

وكنت إذا ما استحدث القانون الجديد تغييراً ، أعنى كل العناية بالإشارة إلى هذا التغيير ، فأرسم حدوده ، وأبين مداه ، وأستطرد عند الحاجة إلى بحث سريان الحكم الجديد من حيث الزمان ، فأذكر ما عسى أن يكون للنص المستحدث من أثر رجعى ، وبخاصة ما يكون له من أثر فورى ، وفقاً للنظريات الحديثة.

(والأمر الثانى) أننى جعلت الفقه والقضاء الفرنسيين هما ، من بين سائر النظم القانونية الأجنبية ، النظام الأجنبى الذى رجعت إليه ، كما كانت الحال فى عهد القانون المدنى القديم. على أن القضاء الفرنسى لم أشر إليه إلا حيث أتابع التطور التاريخي لبعض المبادئ القانونية ، وإلا حيث استكمل به القضاء المصرى. وقد تعمدت أن يكون قضاؤنا المصرى هو الأصل الذي يرجع إليه ، فيكون هو القضاء البارز فى جميع نواحى الكتاب ، لا يغنى عنه القضاء الفرنسى ، بل لا يقف إلى جانبه إلا حيث تقوم الحاجة. لم أفعل ذلك زراية بالقضاء الفرنسى أو غضاً من شأنه ، وإلا فهو القضاء الذى نزلنا ضيوفاً فى ساحته الواسعة ، وعشنا زمناً فى رحباته الفسيحة. ولكن آن للضيف أن يعود إلى بيته ، بعد أن أقامه على عمد قوية. والقضاء المصرى فى مدى خمسة وسبعين عاماً قطع شوطاً بعيداً فى طريق التقدم ، حتى أصبح من حقه أن يظفر باستقلاله. وقد صار من الكثرة والتنوع بحيث يجد الباحث فيه لكل مسألة مرجعاً. وبلغ فى الذاتية شأواً أبعد ما بلغ الفقه المصرى. فمن واجبه الآن أن يضطلع بمسئولياته كاملة.


هذا عن اتصال الحاضر بالماضى. أما عن تطلع الحاضر إلى المستقبل ، فآيته أن القانون المدنى الجديد يفتتح عهداً جديداً. يتمثل ذلك فى هذه النهضة التشريعية المباركة التى بدأت منذ سنة 1936 ، وقد أرسى أساسها على ماهر باشا باللجان التى ألفها لوضع مشروعات للتقنينات الرئيسية ، فناظرت هذه الحركة المثمرة المباركة قرينتها التى نبتت ستين عاماً قبلها وانتهت إلى وضع التقنينات المصرية الحديثة التى قامت عليها حياتنا القانونية ولا تزال تقوم على بعض منها حتى اليوم. فما أشبه الليلة بالبارحة ! لقد دخلت مصر بالأمس ، وفى نهضتها التشريعية الأولى ، عالم القانون الحديث ، فخطت خطوة حاسمة فى مدارج تطورها القانونى. وهى اليوم ، فى نهضتها التشريعية الثانية ، تخطو خطوة حاسمة أخرى ، فتتبوأ مكاناً مستقلا فى الأسرة العالمية للقانون.

وإذا كانت مصر قد استقلت بتشريعها ، فقد آن لها أن تستقل أيضاً بقضائها وبفقهها. وأن هذا العهد الجديد ، الذى افتتحه القانون المدنى الجديد ، لتعلن فيه مصر أنها قد اعتزمت أن يكون لها قضاء ذاتى وفقه قومى. هذه هى المرحلة الجديدة التى تخطوها مصر ، وهذه هى الآفاق الجديدة التى تطالع بها رجال القانون فى هذا العهد الجديد.

لقد ظفر التشريع المصرى بالاستقلال فى سنة 1937 ، وكانت معاهدة مونتريه هى صك استقلاله. وظفر القضاء المصرى بالتوحيد بعد انقضاء فترة الانتقال وزوال المحاكم المختلطة. فعلى القضاء المصرى تقع تبعات جسيمة ينبغى له أن ينهض بها. وعلى الفقه المصرى أن يكون الرائد للقضاء المصرى ، يمهد له السبيل ، ويعبر له الطريق.

وإذا كان القانون المدنى الجديد قد اقتبس نصوصاً من بعض المصادر الأجنبية ، فليست هذه ، فى الكثرة الغالبة منها ، غير مصادر استئناس للصياغة. أما الغالبية العظمى من أحكامه فمستمدة من أحكام القانون المدنى القديم ومن المبادئ التى أقرها القضاء المصرى طوال سبعين سنة كاملة.

وقد كتبت منذ ثمانية عشر عاماً فى كتاب (( نظرية العقد )) : (( علينا أولاً أن نمصر الفقه ، فنجعله فقهاً مصرياً خالصاً ، نرى فيه طابع قوميتنا ، ونحس أثر عقليتنا ، ففقهنا حتى اليوم لا يزال ، هو أيضا ، يحتله الأجنبى ، والاحتلال هنا فرنسى. وهو احتلال ليس بأخف وطأة ، ولا بأقل عنتاً ، من أى احتلال آخر. لا يزال الفقه المصرى يتلمس فى الفقه الفرنسى الهادى المرشد ، لا يكاد يتزحزح عن أفقه ، أو ينحرف عن مسراه ، فهو ظله اللاصق ، وتابعه الأمين. فإذا قدر لنا أن نستقل بفقهنا ، وأن نفرغه فى جو مصرى ، يشب فيه على قدم مصرية ، وينمو بمقومات ذاتية ، بقى علينا أن نخطو الخطوة الأخيرة ، فنخرج من الدائرة القومية إلى الدائرة العالمية ، ونؤدى قسطاً مما تفرضه علينا الإنسانية ضريبة فى سبيل تقدم الفقه العالمى ، أو ما اصطلح الفقهاء على تسميته بالقانون المقارن )).

واليوم يسعدنى أن أنقل هنا ما أدليت به أمام اللجنة التشريعية بمجلس النواب ، وهى تنظر مشروع القانون الجديد : (( أن النصوص التشريعية الواردة فى هذا المشروع لها من الكيان الذاتى ما يجعلها مستقلة كل الاستقلال عن المصادر التى أخذت منها. ولم يكن الغرض من الرجوع إلى التقنينات الحديثة أن يتصل المشروع بهذه التقنينات المختلفة اتصال تبعية فى التفسير والتطبيق والتطور ، فإن هذا ، حتى لو كان ممكناً ، لا يكون مرغوباً فيه ، فمن المقطوع به أن كل نص تشريعى ينبغى أن يعيش فى البيئة التى يطبق فيها ، ويحيا حياة قومية توثق صلته بما يحيط به من ملابسات ، وما يخضع له من مقتضيات ، فينفصل انفصالا تاماً عن المصدر التاريخى الذى أخذ منه ، أيا كان هذا المصدر. وقد حان الوقت الذى يكون لمصر فيه قضاء ذاتى وفقه مستقل. ولكل من القضاء والفقه ، بل على كل منهما ، عند تطبيق النص أو تفسيره ، أن يعتبر هذا النص قائماً بذاته ، منفصلا عن مصدره ، فيطبقه أو يفسره تبعاً لما تقتضيه المصلحة ، ولما يتسع له التفسير من حلول تفى بحاجات البلد ، وتساير مقتضيات العدالة. وبذلك تتطور هذه النصوص فى صميم الحياة القومية ، وتثبت ذاتيتها ، ويتأكد استقلالها ، ويتحقق ما قصد إليه واضعو المشروع من أن يكون لمصر قانون قومى ، يستند إلى قضاء وفقه لهما من الطابع الذاتى ما يجعل أثرهما ملحوظاً فى التطور العالمى للقانون )).

تطور النصوص فى صميم الحياة القومية : هذه هى مهمة القضاء والفقه فى مصر منذ اليوم. ولا عذر لهما إذا هما تخليا عن هذه التبعة الخطيرة ، وتركا الاجتهاد إلى التقليد.

وإن القانون المصرى الجديد ليؤذن بعهد جديد لا فى مصر فحسب ، بل أيضاً فى البلدين الشقيقين العربيين ، سورية والعراق. ويكفى أن يكون هذا الشرح للقانون المصرى الجديد هو فى الوقت ذاته شرح للقانون السورى الجديد ، فما بين القانونين إلا فروق طفيفة أشرت إليها فى حواشى هذا الكتاب. وهو أيضاً مرجع أساسى لشرح القانون العراقى الجديد ، فقد قام هذا القانون على مزاج موفق من الفقه الإسلامى والقانون المصرى الجديد. وقد حان الوقت ليتعاون الفقهاء المصريون مع زملائهم فقهاء سورية وفقهاء العراق ، ويتكاتفوا جميعاً لإرساء أساس قوى (( للقانون المدنى العربى )) ، يكون قوامه الفقه الإسلامى ، قانون المستقبل لبلاد العروبة جميعاً.

وإذا كنا نشعر اليوم بنزعة محمودة إلى تثبيت ذاتيتنا وتأكيد استقلالنا ، بعد أن صلب عودنا وشببنا عن الطوق ، فإن الواجب يقتضينا أن نذكر ذكر المعترف بالفضل والجميل ما نحن مدينون به للفقه الأجنبى ، وبخاصة للفقه الفرنسى. فقد كان هذا الفقه التكئة التى عليها نرتكز ، والنور الذى به نهتدى ، ولا زلنا مغمورين بفيضه حتى اليوم.


هذا والكتاب الذى أقدمه إلى القراء هو من طلائع الشروح للقانون المدنى الجديد. فلابد أن يكون بعيداً عن حد الكمال. وما أعجلنى إلى إخراجه إلا علمى بأن الغاية بعيدة ، وأن العمر قصير ، وأن الكمال لله وحده. وقد تفضل صديقى الأستاذ الفاضل مصطفى كامل إسماعيل فكفل تصحيح (( التجارب )) ، فعاون بذلك على إخراج الكتاب معاونة مشكورة ، تخففت بها من مشقة بالغة. جزاه الله عنى خير الجزاء. وإذا كان هذا الكتاب ليس إلا خطوة متواضعة نحو استقلال الفقه المصرى ، وقد بدت بشائر هذا الاستقلال قبل ذلك فى كتب ورسائل قيمة لزملاء هم فى الذروة من فقه القانون المدنى ، فإنى أرجو أن يكون الكتاب ، فى هذاالحيز المحدود ، قد أوفى بقليل من الغرض ، وملأ شيئاً من الفراغ ، وسد بعضاً من الحاجة.

وبالله المستعان.
أبريل سنة 1952


نظرة في التقنين المدني الجديد

كيف وضع، وكيف يكون تفسيره وما استحدث من أحكام، وما يرسم من اتجاهات عامة

  1. تنقيح التقنين المدنى: كيف قامت فكرة التنقيح، وكيف حققت.
  2. القواعد التى قام عليها التنقيح: كيف عولجت عيوب التقنين القديم – مصادر التنقيح وطرق التفسير فى التقنين الجديد.
  3. الفروق الجوهرية ما بين التقنين الجديد والقديم: ما استحدث التقنين الجديد من أحكام، وما قننه وكان معمولا به من قبل.
  4. الاتجاهات العامة للتقنين الجديد: موقف التقنين الجديد من الاتجاهات العامة للتقنينات الحديثة – التقنين الجديد بين الاستقرار والتطور وبين الفرد والجماعة.

(1) تنقيح التقنين المدني: كيف قامت فكرة التنقيح، وكيف حققت

1) عيوب التقنين المدنى القديم

العيوب الموضوعية:

يكتنف الظروف التى وضع فيها التقنين المدنى القديم شيء من الغموض، إذا لم يختلف عنه أعمال تحضيرية تبين لنا كيف وضع، والظروف التى وضع فيها، والسياسة التشريعية التى توخيت فى وضعه.

والمعروف أن واضع التقنين المدنى المختلط هو الأستاذ مانوري (Manoury). كان محامياً فرنسياً يقيم فى الإسكندرية. واتخذه نوبار باشا أمين سر له. ثم عينه بعد ذلك أمين سر للجنة الدولية التى كانت تدرس مشروع إنشاء المحاكم المختلطة فى مصر، وعهد إليه فى وضع التقنينات المختلطة فى سنة 1872، فانتهى من وضعها فى العام التالى (سنة 1873).

وقد اقتبس مانورى التقنين المدنى المختلط من التقنين المدنى الفرنسى، فاختصر هذا التقنين اختصاراً مخلا فى كثير من المواطن. ونقل بعض المسائل عن القضاء الفرنسى وعن التقنين المدنى الإيطالى القديم الذى صدر فى سنة 1866. ولم يغفل الشريعة الإسلامية فنقل عنها بعض الأحكام. وصدر التقنين المدنى المختلط فى 28 من يونيه سنة 1875. ثم شكلت لجنة من بعض كبار المترجمين – كان فيهم محمد قدرى (باشا) وحسين فخرى (باشا) وبطرس غالى (باشا) – وقامت اللجنة بترجمة هذا التقنين وسائر التقنينات المختلطة إلى اللغة العربية.

وما لبثت حكومة ذلك العهد، بعد إذ استقرت المحاكم المختلطة، أن تطلعت إلى إصلاح القضاء الوطنى وتنظيمه على غرار القضاء المختلط. وكان ناظر الحقانية إذ ذاك محمد قدرى باشا. فتألفت فى أواخر سنة 1880 لجنة لوضع لائحة لمحاكم وطنية نظامية، كان من بين أعضائها الأستاذ موريوندو (Moriondo) وهو محام إيطالى عين قاضياً فى محكمة الإسكندرية المختلطة فى سنة 1875، وبقى فى القضاء المختلط حتى وصل إلى منصب وكيل محكمة الاستئناف المختلطة، وتوفى سنة 1911. وقامت هذه اللجنة بوضع لائحة لترتيب المحاكم الوطنية الجديدة صدرت فى 17 من نوفمبر سنة 1881. وقام أعضاء اللجنة فى الوقت ذاته بوضع تقنينات لهذه المحاكم، صيغت كلها على مثال التقنينات المختلطة. وكان من نصيب الأستاذ موريوندو أن يضع التقنين المدنى الوطنى، فنقله نقلا يكاد يكون حرفياً من التقنين المدنى المختلط. واشترك محمد قدرى باشا مع الأستاذ موريوندو فى وضع هذا التقنين.

ثم شبت الثورة العرابية، فوقفت حركة الإصلاح القضائى. ولما أخمدت الثورة أعادت الحكومة النظر فى لائحة سنة 1881، وأصدرتها معدلة فى 14 من يونيه سنة 1883. ثم أصدرت التقنين المدنى الوطنى فى 28 من أكتوبر سنة 1883، فالتقنينات الخمسة الأخرى فى 13 من نوفمبر سنة 1883. وقد وضعت هذه التقنينات الوطنية كلها باللغة الفرنسية، ثم ترجمت إلى اللغة العربية. وقام بالترجمة يوسف وهبه (باشا) مسترشداً بترجمة التقنينات المختلطة التى سبقت الإشارة إليها. وراجعت الترجمة لجنة شكلت لهذا الغرض.

وقد سجلت قوانين ((الإصلاح)) المختلطة والوطنية فى تاريخ التقنين المصرى مرحلة تقدم واسعة فى العهد الذى صدرت فيه، وقضت على كثير من مساوئ الماضى. ولكن البلاد بقيت تسير إلى الأمام، فتطورت المدينة، واستدار الزمن، وتقدم فن التقنين، وأصبحت مصر لا تقنع اليوم بما كانت تقنع به بالأمس، وأخذت عيوب هذه التقنينات تظهر شيئا فشيئا. وبحسبى أن أشير هنا إشارة موجزة إلى عيوب التقنين المدنى القديم.

وأول ما يعيب هذا التقنين أنه محض تقليد للتقنين الفرنسى العتيق. فجمع بين عيوب التقليد وعيوب الأصل الذى قلده. والتقنين الفرنسى قد قدم به العهد، وهو اليوم متخلف عن العصر الذى يعيش فيه قرناً ونصف قرن. وفى خلال هذه الأجيال الطويلة ارتقى التقنين المقارن إلى مدى جعل التقنين الفرنسى فى الصف الأخير من التقنينات الحديثة. فهناك مسائل ذات خطر كبير نبتت فى العهود الأخيرة، ونمت وازدهرت فاحتوتها تقنينات القرن العشرين، ولا نجد لها أثراً فى التقنين الفرنسى، وقد ولد فى فجر القرن التاسع عشر، ولا فى تقنيننا المدنى الذى أخذ عنه. فمبدأ التعسف فى استعمال الحق، ونظرية الاستغلال، ونظام المؤسسات، وتنظيم الملكية فى الشيوع، وعقود التزام المرافق العامة،وعقد التأمين، وحوالة الدين، والإعسار المدنى، كل هذه المسائل الخطيرة لا نعثر على نص واحد فيها لا فى التقنين الأصيل ولا فى التقنين المقلد. وحتى فيما احتواه هذان التقنينان من النظريات والأحكام، نرى الكثير منها ناقصاً مبتورا. ويكفى أن نشير إلى أهم نظرية فى القانون المدنى وهى نظرية الالتزام، وإلى أهم باب فيها وهو باب المصادر، حتى يظهر بجلاء أن أحكام العقد والعمل غير المشروع والإثراء بلا سبب وردت فى التقنينين غامضة مقتضبة. فلا نجد فى أحكام العقد شيئاً عن النيابة فى التعاقد، ولا عن الإرادة المنفردة، ولا عن عقود الإذعان، ولا عن الدفع بعدم تنفيذ العقد، ولا عن الحق فى الحبس، بل نحن لا نجد فى مسألة من أدق مسائل العقد، وهى مسألة تكوينه، إلا صمتا محيرا. فلا نص يبين كيف يصدر الإيجاب، ومتى يكون ملزماً، وإلى أى وقت، وكيف يقترن به القبول، ومتى وأين يتم التعاقد فيما بين الغائبين. ولا نجد فى المسئولية التقصيرية إلا عدداً قليلا من النصوص تسكت عن أهم المسائل فى هذه المسئولية. أما فى الإثراء بلا سبب فلا يوجد نص واحد يضع القاعدة العامة فى هذا الموضوع الخطير.

ولم يقتصر التقنين المصرى على نقل عيوب التقنين الفرنسى، بل زاد عليها عيوباً من عنده. وهو إذا كان قد تجنب عيوب هذا التقنين فى بعض المسائل، كما فعل فى ترتيبه لمصادر الالتزام وفى عيوب الرضاء والهبة المستترة والتضامن فى المسئولية التقصيرية والمصروفات الفاحشة فى بيع الوفاء وامتياز المقاول من الباطن، إلا أن ما زاده من العيوب أربى بكثير على ما تجنبه منها.

ففى تقنيننا المدنى القديم فضول واقتضاب. وفيه غموض وتناقض. ثم هو يقع فى كثير من الأخطاء الفاحشة.

  • فضول واقتضاب: يكفى أن نتصفحه لنتبين ذلك فى وضوح. فهو فى حق الملكية، أهم الحقوق العينية، يقتصر على نصين اثنين، يتحدث فى الثانى منهما عن حق المؤلف ويحيل فيه إلى قانون خاص. وهو مع ذلك يتناول حق الانتفاع، أقل الحقوق العينية خطراً وأضيقها انتشاراً فى مصر، فإذا به يفيض فى نصوصه إفاضة لا يفسرها إلا أنه يقلد التقنين الفرنسى تقليداً أعمى، حيث حق الانتفاع فى فرنسا من الحقوق العينية الواسعة الانتشار بسبب قانون الميراث. ثم هو فى نظرية الالتزام يفيض فى المسائل التى لا حاجة للإفاضة فيها كما فعل فى الالتزامات التخييرية والالتزامات التى يكون القانون مصدرها، ويقتضب فى المسائل التى هي فى أشد الحاجة إلى البيان والتفصيل كما فعل فى تكوين العقد وفى الاشتراط لمصلحة الغير وفى الدعوى البوليصية وفى المسئولية التقصيرية وفى الإثراء بلا سبب.
  • غموض وتناقض: يتفشى الغموض فى كثير من نصوصه الجوهرية. ويكفى الرجوع إلى النصوص المتعلقة بالدعوى غير المباشرة والدعوى البوليصية والالتزام الطبيعى والشرط الجزائى والمحل والسبب والاشتراط لمصلحة الغير والتضامن وعمل الفضولى والحيازة، لنتبين أن هذه النصوص قلقة غامضة لا تخلص إلى معنى مستقر ثابت. أما التناقض ما بين أحكام التقنين القديم فهو أمر غير نادر الوقوع.
    • إذ بينما يحمل المشترى تبعة الهلاك فى بيع المثليات قبل التسليم، نرى البائع هو الذى يحمل هذه التبعة بوجه عام. وقد ساير التقنين القديم التقنين الفرنسى فى الأولى،ونقل عن الشريعة الإسلامية فى الثانية.
    • وبينما لا يجوز للمدين المتضامن أن يتمسك بالمقاصة التى وقعت لغيره من المدينين المتضامنين، إذا به يجوز له أن يتمسك بها بقدر حصته فى الدين.
    • وفى الوقت الذى يجيز فيه التقنين القديم الاشتراط لمصلحة الغير دون قيد، إذا به يقرر فى عبارة عامة وفى غير احتراز أن العقود لا تترتب عليها منفعة لغير عاقديها.
    • وينزل بالحد الأقصى للفوائد الاتفاقية إلى 9 فى المائة، ولكنه يرتفع به فى عقد القرض إلى 12 فى المائة.
    • ولم يسلم التقنين المدنى الوطنى من أن يتناقض فى بعض أحكامه مع التقنين المدنى المختلط. فالتقنين الوطنى يشترط فى حوالة الحق رضاء المدين، ويكتفى التقنين المختلط بإعلانه. ويبيح التقنين الوطنى بيع المحصولات قبل أن تنبت، ويحرم التقنين المختلط هذا البيع. ويجعل التقنين الوطنى أقصى مدة الاسترداد فى بيع الوفاء خمس سنين، وينقص التقنين المختلط هذه المدة إلى سنتين.
  • أخطاء فاحشة: هناك سلسلة من الأخطاء وقع فيها التقنين القديم.
    • منها أنه أغفل أهم شرط فى التملك بالتقادم القصير، وهو شرط حسن النية.
    • ونقل أحكام بيع المريض مرض الموت عن الشريعة الإسلامية فوقع فى غلطتين: نظر إلى مال البائع وقت البيع والصحيح أن ينظر إليه وقت الموت، وقضى بأن العبرة بقيمة المبيع والصحيح أن العبرة بالقدر المحابى به.
    • وقرر أحكاماً غريبة فى النفقات نقلها عن القانون الفرنسى وهى تتنافر مع أحكام الشريعة الإسلامية، فجعل الزوجة تنفق على زوجها، بل تنفق على زوجة أبى زوجها.
    • وذكر أن ملكية المبيع المعين بالنوع تنتقل بالتسليم، والصحيح أنها تنتقل بالتعيين.
    • وجعل الشرط الجزائى التزاماً تخييرياً، والصحيح أنه يخرج من نطاق الالتزامات التخييرية.
    • ورتب على الوفاء مع الحلول أن الدين ينقضى ويحل محله دين جديد، والصحيح أن للدين يبقى مع انتقاله إلى دائن جديد.
    • وزعم التقنين المدنى المختلط أن القسمة منشئة للحق، والصحيح أن القسمة كاشفة لا منشئة.
العيوب الشكلية:

إلى جانب العيوب الموضوعية، يعاني التقنين القديم من عيوب شكلية ترجع إلى تبويبه وإلى ازدواج لغته.

  • التبويب: تبويبه واضح العيوب.
    • يجمع فى كتاب أول بين الأموال والحقوق العينية الأصلية، وكان الواجب فصل الأموال عن الحقوق العينية، فالأموال محل للحقوق العينية وللحقوق الشخصية على السواء.
    • يفصل فى كتابين مستقلين بين نظرية الالتزام والعقود المسماة، ولا محل لهذا الفصل فالعقود المسماة تتصل بنظرية الالتزام أوثق الاتصال.
    • يخصص كتاباً رابعاً لما يسميه بحقوق الدائنين، ويخلط فيه بين التأمينات العينية وإثبات الحقوق العينية ودفاتر التسجيل، بل هو لا يذكر من التأمينات العينية الرهن الحيازى ويورده دون غيره فى العقود المسماة.
    • لا يشتمل على باب تمهيدى لمصادر القانون ولتطبيقه فى الزمان والمكان، ولغير ذلك من المسائل العامة.
  • التبويب التفصيلي: عيوب التبويب التفصيلى لا تقل عن عيوب التبويب العام.
    • في الكتاب المخصص للحقوق العينية الأصلية نرى قيود الملكية واردة على أنها حقوق ارتفاق، ولا نرى أثراً للملكية فى الشيوع ولا للقسمة إلا بعيداً عن هذا الكتاب فى المكان المخصص للشركات وفى قانون المرافعات.
    • نرى قاعدة جوهرية كالقاعدة التى تقضى بأن الحيازة فى المنقول سند الملكية موزعة توزيعاً غريباً بين التملك بالعقد والتملك بالتقادم وإثبات الحقوق العينية.
    • ليس ثمة أثر لأي ترتيب منطقى أو عملى لوحظ فى تسلسل أسباب كسب الملكية.
    • في الكتاب الثانى المخصص لنظرية الالتزام نرى نظرية الالتزام فى ذاته مشطورة شطرين توسطت بينهما أبواب ثلاثة خصصت لمصادر الالتزام.
      • الباب الأول يتناول أثر الالتزام وما يدخل عليه من أوصاف.
      • الباب الثانى يتناول أول مصادر الالتزام وهو العقد.
      • الباب الثالث يخلط بين مصدرين مستقلين (الإثراء بلا سبب والعمل غير المشروع).
      • الباب الرابع يفيض في المصدر الأخير للالتزام وهو القانون.
      • الباب الخامس يعود إلى نظرية الالتزام في ذاته فيتناول أسباب انقضائه ويرتبها ترتيباً غير منطقى.
      • أما انتقال الالتزام فلا تراه فى هذا الكتاب أصلا، وإنما تجده منزوياً فى الفصل الأخير من فصول عقد البيع.
    • في الكتاب الثالث المخصص للعقود المسماة، تجد هذه العقود قد وردت واحداً بعد الآخر فى غير ترتيب واضح.
    • الكتاب الرابع مزيج غريب يجمع ما بين حق الدائن العادى فى التنفيذ على أموال مدينه، والتأمينات العينية (غير كاملة)، وقواعد التسجيل القديمة، ثم أحكام تفصيلية فى دفاتر التسجيل.
  • ازدواج اللغة: وضع هذا التقنين فى الأصل باللغة الفرنسية، ثم ترجم إلى اللغة العربية، فكان من ذلك أن وجد أمام المحاكم الوطنية نص أصلى – يقابله نص رسمى، وكثيراً ما يتناقض النصان.
    • مثال التدليس: يشترط النص العربى أن يكون صادراً من أحد المتعاقدين ولا يشترط النص الفرنسى ذلك، والصحيح هو النص الفرنسى.
    • مثال إعذار المدين: يقرر النص العربى أن الإنذار فيه يجب أن يكون رسمياً ولا يتطلب النص الفرنسى ذلك، والصحيح هنا هو النص العربى.
    • مثال الوفاء مع الحلول: لا يشير النص العربى فيه إلى دين جديد يحل محل دين قديم ويصرح النص الفرنسى بذلك، والصحيح هنا أيضاً هو النص العربى.
    • مثال استرداد الحصة الشائعة: لا يشترط النص العربى فى الشركاء أن يكونوا أصليين ويشترط ذلك النص الفرنسى، والصحيح هو النص الفرنسى.

    أنت ترى قدر الاضطراب الذى يقع من ازدواج لغة التشريع ومن عدم اطراد القاعدة فى الأخذ بأى النصين، فتارة يؤخذ بالنص العربى، وأخرى بالنص الفرنسى. هذا إلى أن الترجمة العربية، وهى النص الرسمى، يقع كثيراً أن تكون ترجمة خاطئة لم تتحر الدقة فيها.

ب) التنقيح الشامل:

هذه هى عيوب التقنين القديم أشرنا فى إيجاز لأن الكثير منها معروف. وتقنين على هذا القدر من العيوب لا يجوز التردد فى القول بوجوب تنقيحه، وبتنقيحه تنقيحاً شاملاً. فالتنقيح الجزئي لا يجدى فى إصلاح عيوب انتشرت فى جميع ثنايا التقنين، وشاعت فى كل أجزائه. وقد كان التنقيح الشامل هو المبدأ المقرر فى جميع اللجان التى توالت على تنقيح هذا التقنين، يبرز هذا فى وضوح من الرجوع إلى أعمال هذه اللجان، ومن الرجوع إلى المذكرة الرسمية التى كانت أصلا فى تأليف اللجان جميعاً.

والتقنينات متى قدمت، وطال بها العهد، واختلف عليها الزمن، لا يجدى فيها الترفيع. وقد عمد واضعو المشروع الفرنسى الإيطالى إلى التنقيح الشامل دون التنقيح الجزئى، فطلعوا على الناس بأثر تشريعى جليل. وهكذا صنع الإيطاليون عند ما نقحوا تقنينهم المدنى فى العهد الأخير، فجاء تنقيحهم شاملا جامعاً. وهذا هو ما اعتزم الفرنسيون أن يصنعوا، فهم اليوم ينقحون تقنينهم المدنى العتيق تنقيحاً شاملا، بدأوا العمل فيه منذ سنة 1945. فإذا كان كل من التقنين الإيطالى والتقنين الفرنسى فى هذه الحاجة إلى التنقيح الشامل، وقد نقح أولهما فعلا وأخذ الثانى طريقه إلى التنقيح، فما أولى التقنين المصرى بالتنقيح الشامل وهو الذى جمع إلى عيوبه الذاتية عيوب الأصل الذى حاكاه.

جـ) الظروف التى نبتت فيها فكرة التنقيح:

نبتت فكرة تنقيح التقنين المدنى منذ عهد بعيد. وقد كان التقنين القديم منذ صدوره محلا لتعديلات جزئية متفرقة. وألفت لجنة أثناء الحرب العالمية الأولى للنظر فى إلغاء الامتيازات الأجنبية، وكان فيما فكرت فيه تنقيح القانون المدنى.

على أن التنقيح الشامل لم يكن محلا للتفكير فى تلك العهود. ولكن التطورات العميقة التى ساقها الحرب العالمية الأولى ما لبثت أن جعلت هذه المسألة الخطيرة تطرح على بساط البحث. فناقشها كبار المشتغلين بالقانون المصرى من الأجانب فى ذلك الوقت، منهم الأستاذ بيولاكازيللى، والأستاذ مسينا، والأستاذ والتون، والأستاذ بواييه. فكان الأولون من خصوم التنقيح الشامل، والأخيران من أنصاره.

وأول تصريح رسمى حاسم فى اعتزام الحكومة تعديل التقنين المدنى والتقنينات الأخرى تعديلا شاملا ورد فى الخطاب الذى ألقاه وزير الحقانية فى عيد الاحتفال الخمسينى بالمحاكم الوطنية فى سنة 1933. وعلى أثر ذلك انطلق الشعور العام الذى كان سائدا فى ذلك الوقت بين رجال القانون من المصريين، فنادوا بوجوب تنقيح التقنين المدنى تنقيحاً شاملاً.

ثم توالت الأحداث السياسية، وأخذت الحرب العالمية الثانية تقترب، ومال الإنجليز إلى عقد معاهدة مع مصر استعداداً لهذه الحرب. وقبل أن تعقد معاهدة سنة 1936، توقعت الوزارة التى كانت قائمة فى الحكم إذ ذاك – وزارة على ماهر باشا – أن هذه المعاهدة لابد أن تعرض للامتيازات الأجنبية، وأن تقضى بإلغائها. فقدرت بحق أن إلغاء هذه الامتيازات يقتضى تعديل التقنينات المصرية التى وضعت على عجل وقت إنشاء المحاكم المختلطة، ونقلت نقلا يكاد يكون حرفياً إلى المحاكم الوطنية عند إنشائها. فأخذت للأمر أهبته، وشكلت لجنتين، إحداهما لتعديل التقنين المدنى والتقنين التجارى وتقنين المرافعات، والأخرى لتعديل التقنين الجنائى وتقنين الإجراءات الجنائية.

2 – كيف حققت فكرة التنقيح (اللجان التى تعاقبت على تنقيح القانون المدنى)

اللجنة الأولى:

تم تكليف إحدى اللجنتين بتنقيح القانون المدنى تنقيحاً شاملا. وكانت هذه اللجنة برئاسة مراد سيد أحمد باشا، وأعضاؤها سبعة غير الرئيس. وقد شكلت بقرار من مجلس الوزراء صدر فى أول مارس سنة 1936. حدد المجلس عامين للجنة لكى تتم فى خلالهما أعمالها، واشترط تفرغ أعضاء اللجنة ومعاونيهم للمهمة التى نيطت بهم تفرغاً تاماً فى نظير مكافآت مالية تعوضهم عن جهودهم.

عقدت اللجنة الأولى في المدة ما بين 21 من مارس سنة 1936، و 26 من مايو سنة 1936، عشر جلسات. انتهت إلى إقرار بعض النصوص التمهيدية فى القانون المدنى على أساس مشروع تقدم به الأستاذ لينان دى بلفون، وهي تتعلق بمصادر القانون وبتنازع القوانين. وقد استبقى المشروع التمهيدى للقانون المدنى الجديد من هذه النصوص أربعة هى المواد الأولى فيه، وكذلك استبقى مشروعاً قدمه للجنة الأستاذ لينان دى بلفون فى الأشخاص المعنوية والجمعيات والمؤسسات بعد إدخال بعض تعديلات فيه. ولكن اللجنة الأولى لم تكد تقضى فى عملها شهرين حتى صدر قرار من مجلس الوزراء فى 26 من مايو سنة 1936 بحلها اقتصاداً فى النفقات على أثر تغير الوزارة.

اللجنة الثانية:

بقى العمل معطلاً إلى أن صدر فى 20 من نوفمبر سنة 1936 قرار من مجلس الوزراء بتشكيل اللجنة الثانية برياسة كامل صدقى (باشا) ومعه عشرة أعضاء، على أسس تغاير الأسس التى قامت عليها اللجنة الأولى، فلم تحدد لنهاية العمل مدة وألغى نظام التفرغ والمكافآت.

عقدت اللجنة الثانية فى المدة ما بين 20 من نوفمبر سنة 1936 و 21 من يونيه سنة 1938 ما يقرب من عشرين جلسة، انتهت فيها إلى الموافقة على النصوص التمهيدية والنصوص المتعلقة بالموطن والشفعة والكفالة. وقد استبقى المشروع التمهيدى للقانون المدنى الجديد من هذه الأعمال النصوص المتعلقة بالشفعة بعد مراجعتها والنصوص المتعلقة بالكفالة بعد إدخال تعديلات جوهرية فيها.

اللجنة الثالثة والأخيرة:

في 16 من يونية سنة 1938، تقدم وزير العدل أحمد خشبة باشا بمذكرة إلى مجلس الوزراء اقترح فيها إسناد مهمة وضع التقنين إلى أحد رجال القانون، حتى إذا فرغ من وضع مشروع تمهيدى طرح هذا المشروع على الرأى العام، ثم عهد به إلى لجنة تتولى مناقشته. واقترح أن يعهد فى وضع المشروع التمهيدى للقانون المدنى إلى اثنين من المشتغلين بالقانون يختار أحدهما من المصريين والآخر من الأجانب، على أن يتفرغا لعملهما ويتماه فى مدى ستة شهور.

في 21 من يونية سنة 1938 وافق مجلس الوزراء على الاقتراح وحلت اللجنة الثانية. وفي 28 من يونيه سنة 1938 أصدر وزير العدل قراراً بإسناد مهمة وضع المشروع التمهيدى للقانون المدنى لاثنين من رجال القانون، أحدهما الأستاذ إدوار لامبير، والثانى مؤلف هذا الكتاب. وإلى هذا الإجراء الحكيم يرجع الفضل فى إنجاز المشروع التمهيدى فى قرابة عامين، وقد بلغت مواد هذا المشروع 1591 مادة، وتم طبعه فى سنة 1942. وعرضته وزارة العدل للاستفتاء على رجال القضاء وأساتذة القانون ومختلف الهيئات القانونية والمالية، وظل معروضا للاستفتاء زهاء ثلاث سنوات.

في 29 من مارس سنة 1945 شكلت لجنة برياسة مؤلف هذا الكتاب وعضوية أربعة من رجال القانون، لمراجعة المشروع فى ضوء ما تم من الاستفتاء وما قدم من الملاحظات. وقد عقدت لجنة المراجعة هذه أولى جلساتها فى أول أبريل سنة 1945 وانتهت من مراجعة المشروع التمهيدى فى 21 من نوفمبر سنة 1945.

أرسل المشروع النهائى إلى مجلس الوزراء فى 22 من نوفمبر سنة 1945، وهو يشتمل على 1253 مادة، وصدر مرسوم بعرضه على البرلمان فى 4 من ديسمبر سنة 1945.

  • في مجلس النواب: عرض المشروع على مجلس النواب، بعد أن أحيل على ((لجنة الشؤون التشريعية)) برياسة حضرة النائب المحترم علي أيوب بك وكيل المجلس، فأقره، وقد استغرق نظره بالمجلس ولجنته التشريعية زهاء ستة شهور، من 17 ديسمبر سنة 1945 إلى 27 مايو سنة 1946.
  • في مجلس الشيوخ: أحيل المشروع بعد ذلك إلى مجلس الشيوخ، فقرر فى 3 من شهر يونية سنة 1946 إحالته إلى لجنة خاصة سميت لجنة القانون المدنى، برياسة حضرة الشيخ المحترم محمد محمد الوكيل بك وكيل المجلس. ودرست اللجنة المشروع دراسة مستفيضة مدة عامين، استمعت فى خلالهما إلى كثير من الآراء تقدمت إليها من جهات مختلفة.

أحالت اللجنة المشروع بعد أن أقرته إلى مجلس الشيوخ، فأقره المجلس فى 28 من شهر يونيه سنة 1948. وأحيل ثانية إلى مجلس النواب لإقرار التعديلات التى رأى مجلس الشيوخ إدخالها، فأقرها مجلس النواب فى 5 من شهر يولية سنة 1948.

فى 16 من شهر يوليه سنة 1948 صدر المرسوم بالتصديق عليه وإصداره. ونشر فى الجريدة الرسمية بتاريخ 29 من شهر يوليه سنة 1948 على أن يعمل به ابتداء من 15 أكتوبر سنة 1949، أي من اليوم الذى توحد فيه القضاء المصرى بزوال النظام المختلط، وبلغ عدد مواده 1149 مادة.

في 24 من شهر أكتوبر سنة 1948 صدر قرار وزير العدل بتشكيل لجنة لجمع الأعمال التحضيرية للتقنين المدنى الجديد ونشرها. وقد أنجزت اللجنة مهمتها، ووقعت مجموعة الأعمال التحضيرية فى أجزاء سبعة، هى التى ننقل عنها فى هذا الكتاب.


(2) القواعد التي قام عليها التنقيح: كيف عولجت عيوب التقنين القديم – مصادر التنقيح وطرق التفسير في التقنين الجديد

1- كيف عولجت عيوب التقنين القديم (استعراض عام للتقنين الجديد)

كان الهم الأول لواضعى التقنين الجديد هو أن يعالجوا عيوب التقنين القديم سواء فى الشكل أو فى الموضوع.

أ- كيف عولجت العيوب الشكلية:

رأينا أن التقنين القديم كان معيباً فى تبويبه، ومعيباً فى ازدواج لغته وضعف أسلوبه.

  • (أولاً) التبويب:
    • مشتملات التقنين الجديد: قامت صعوبات واضحة حالت دون أن يندرج فى التقنين الجديد أحكام الأسرة. فرأى واضعو المشروع ألا يربكوا التقنين المدنى الجديد بعقبات يتعذر تذليلها، واعتزموا الاقتصار على أحكام المعاملات.
    • قسم عام للتقنين الجديد: لم يتردد واضعو التقنين الجديد طويلا بين مثلي التقنينات اللاتينية (فصل تمهيدي قصير) والتقنينات الجرمانية (قسم عام مسهب). رأوا أن مثل التقنينات اللاتينية لم يعد هو المثل المتبع فى التقنينات الحديثة. ولكنهم لم يأخذوا بمثل التقنين الألمانى كاملا، ولم يدرجوا فى القسم العام نصوصاً تتناول أحكام العمل القانونى، حيث أن أصلح مكان لهذه النصوص هو الفصل الذى يخصص للعقد. وما كان بعد ذلك من مسائل عامة فقد احتواها الباب التمهيدى للتقنين الجديد، والذي يشتمل على 88 نصًا.
    • التقسيم الرئيسى للقانون الجديد: يبدأ التقنين الجديد بباب تمهيدى. ثم ينقسم إلى قسمين، أحدهما للحقوق الشخصية، والثانى للحقوق العينية. ويتجزأ القسم الأول إلى كتابين، أحدهما لنظرية الالتزام، والثانى للعقود المسماة. وكذلك يتجزأ القسم الثانى إلى كتابين آخرين، أحدهما للحقوق العينية الأصلية، والثانى للحقوق العينية التبعية.
    • التبويب التفصيلي للتقنين الجديد: في تبويب الأقسام الرئيسية، يفضل التقنين الجديد التقنين القديم.
      • الكتاب الأول (نظرية الالتزام): يبدأ بمصادر الالتزام (العقد، الإرادة المنفردة، العمل غير المشروع، الإثراء بلا سبب، القانون)، ثم آثار الالتزام، ثم الأوصاف المعدلة لأثر الالتزام، ثم انتقال الالتزام، ثم انقضاء الالتزام، ويختتم بإثبات الالتزام.
      • الكتاب الثانى (العقود المسماة): تم تبويبها بشكل منهجي: العقود التى تقع على الملكية، ثم على الانتفاع، ثم الواردة على العمل، ثم عقود الغرر، وأخيرًا عقد الكفالة.
      • الكتاب الثالث (الحقوق العينية الأصلية): يبدأ بحق الملكية (بوجه عام، الملكية الشائعة، أسباب كسب الملكية)، ثم الحقوق المتفرعة عن حق الملكية (حق الانتفاع، حق الحكر، حق الارتفاق).
      • الكتاب الرابع (الحقوق العينية التبعية): يشمل التأمينات العينية مرتبة في أبواب: الرهن الرسمى، حق الاختصاص، رهن الحيازة، حقوق الامتياز.
  • (ثانيا) اللغة والأسلوب:
    • لا شك فى أن التقنين الجديد، فى لغته وفى أسلوبه التشريعى، أرقى من التقنين القديم.
    • خلا التقنين الجديد من عيب ازدواج اللغة، فالنص العربى هو النص الرسمى والأصلى فى وقت معاً.
    • برئ التقنين الجديد من الضعف فى التعبير والركاكة فى الأسلوب، وأصبحت المصطلحات القانونية ثابتة لا تتغير.
ب- كيف عولجت العيوب الموضوعية:

عالج التقنين الجديد العيوب الموضوعية التى كانت متفشية فى التقنين القديم، فاستحدث أحكاما جديدة، واستوفى مسائل ناقصة، وجمع نصوصا متناثرة.

  • استحداث أحكام جديدة: مثل القواعد المتعلقة بتنازع القوانين، الشخصية المعنوية، حوالة الدين، التزام المرافق العامة، عقد العمل، عقد التأمين، عقد الهبة، الحكر، إيجار الوقف، وتنظيم الإعسار المدنى وتصفية التركة.
  • استيفاء مسائل ناقصة: مثل القواعد المتعلقة بتكوين العقد، الدعوى البوليصية، الاشتراط لمصلحة الغير، المسئولية العقدية والتقصيرية، الحراسة، الملكية الشائعة، رهن الحيازة، وحق الاختصاص.
  • جمع أحكام متناثرة: مثل موضوع الحيازة، حقوق الارتفاق، حقوق الامتياز، الحق فى الحبس، والنيابة فى التعاقد.

2- مصادر التنقيح وطرق التفسير فى القانون الجديد

مصادر التنقيح ثلاثة:

  • أ- أولها وأهمها نصوص التقنين المدنى القديم: بعد أن هذبت، وأضيف إليها أحكام القضاء المصرى طوال سبعين سنة. والنصوص التى استقيت من هذا المصدر تكاد تستغرق ثلاثة أرباع التقنين الجديد.
  • ب- وثانى هذه المصادر هو الفقه الإسلامى: فقد استبقى التقنين الجديد ما أخذ التقنين القديم عن هذا الفقه، وأضاف مسائل جديدة إلى ما سبق أخذه.
  • جـ- وثالث هذه المصادر هى التقنينات الحديثة: فقد استحدث القانون الجديد موضوعات أخذها عن هذه التقنينات، واستأنس فى موضوعات أخرى بما تميزت به هذه التقنينات من تقدم فى الصياغة ورقى فى الأسلوب التشريعى.
أ- نصوص التقنين المدنى القديم وأحكام القضاء المصرى
  • ما الذى استقاه التقنين الجديد من هذا المصدر: هذب التقنين الجديد نصوص التقنين القديم في نظريات عامة (كالغلط والسبب) ومسائل تفصيلية (كوقف التقادم والبيع في مرض الموت). وقنن أحكام القضاء المصرى في نظريات عامة (كالتعسف في استعمال الحق وتكوين العقد والاستغلال والحوادث الطارئة) ومسائل تفصيلية (كوجوب المطالبة القضائية بالفوائد والشرط الجزائي). الكثرة الغالبة من نصوص التقنين الجديد قد استقيت من هذا المصدر.
  • كيف تفسر النصوص التى استقيت من القضاء المصرى والتقنين المدنى القديم: يجب أن تفسر فى ضوء القضاء والفقه اللذين نشآ فى مصر فى ظل التقنين القديم، وبذلك يتصل الحاضر بالماضى، ولا تنقطع سلسلة التطور. أمثلة على ذلك تشمل:
    • الاستغلال (المادة 129): عند تحديد معنى "الطيش البين والهوى الجامح"، يجب على القاضي أن يسترشد بالقضاء السابق في الحالات المماثلة التي عرضت على المحاكم المصرية، بدلاً من الرجوع إلى التقنينات الأجنبية.
    • الاشتراط لمصلحة الغير (المادة 154): بالرغم من وضوح النص الجديد مقارنة بالقديم، يجب على القاضي أن يسترشد بالقضاء والفقه المصريين السابقين في حل المسائل التفصيلية، حيث سيجد أن التطبيق لا يغير النتائج التي كانت تترتب على النص القديم.
    • التهديد المالى (المادتان 213-214): هذه النصوص استقيت من القضاء المصرى السابق، فيجب على القاضي الرجوع إلى هذا القضاء بالذات في تفسيرها وتحديد مراميها، فهو مصدرها المباشر.
    • الشرط الجزائى (المادة 224): هذا النص قنن قضاءً اجتهادياً كان يجري على عكس النص التشريعي القديم، وبالتالي يجب أن يرجع في تطبيقه وتفسيره إلى القضاء المصرى السابق.
ب- الفقه الإسلامى
  • ما الذى استقاه التقنين الجديد من هذا المصدر:
    • القديم المستبقى: استبقى التقنين الجديد ما اشتمل عليه التقنين القديم من أحكام مأخوذة عن الفقه الإسلامي مثل بيع المريض مرض الموت، الأهلية، الشفعة، والهبة، مع تهذيبها وتصحيح الأخطاء.
    • الجديد المستحدث: استحدث التقنين الجديد أحكاماً أخرى من الفقه الإسلامي مثل نظرية التعسف في استعمال الحق، حوالة الدين، ومبدأ الحوادث الطارئة.
    • كمصدر رسمي: نصت المادة الأولى من التقنين الجديد على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرسمى الثالث للقانون المدنى المصرى بعد النصوص التشريعية والعرف.
  • كيف تفسر النصوص وتستخلص الأحكام:
    • النصوص التي نقلت عن الشريعة الإسلامية يرجع في تفسيرها إلى القضاء المصري أولاً، ثم إلى كتب الفقه الإسلامي.
    • عند الرجوع للفقه الإسلامي، يجب عدم التقيد بمذهب معين، ومراعاة التنسيق بين أحكامه والمبادئ العامة للتشريع المدني.
جـ - التقنينات الحديثة
  • ما الذى استقاه التقنين الجديد من هذا المصدر: انتفع التقنين الجديد بالتقدم في الأسلوب الفني والصياغة التشريعية للتقنينات الحديثة (اللاتينية والجرمانية). وقد رجع إليها في بعض النواحي الموضوعية (كالمؤسسات وحوالة الدين) ولكن أكثر ما رجع إليها كان في نواحي الصياغة والأسلوب، مع الحرص على أن تؤدي العبارات المستعارة المعاني المقصودة من القضاء المصري والنصوص القديمة، وأن تنصهر جميع العناصر في بوتقة واحدة.
  • كيف تفسر النصوص التى استقيت من التقنينات الحديثة: أهم مبدأ هو أن نصوص التقنين الجديد التى استمدت من التقنينات الأجنبية يجب أن تفصل فصلا تاما عن مصادرها الأجنبية، فلا يرجع إلى هذه المصادر فى تطبيقها وتفسيرها. هذه النصوص أصبح لها كيان ذاتى مستقل ويجب الرجوع في تفسيرها إلى مصادرها الموضوعية من قضاء مصرى سابق وفقه مصرى تقليدى ونصوص تشريعية قديمة. وقد أكدت الأعمال التحضيرية وتقارير اللجان التشريعية في مجلسي النواب والشيوخ على هذا المبدأ، مشددة على ضرورة أن يحيا القانون حياة قومية وأن يكون لمصر قضاء ذاتي وفقه مستقل.

(3) الفروق الجوهرية ما بين التقنين القديم والجديد: ما استحدث التقنين الجديد من أحكام، وما قننه وكان معمولاً به من قبل

لم يحمل التقنين الجديد فى نصوصه وأحكامه شيئاً يغاير ما كان التقنين القديم يتضمن من نصوص وأحكام، إلا فيما أضافه لسد نقص أو عالجه من عيوب. يمكن رد الفروق الجوهرية إلى أصلين: ما استحدثه التقنين الجديد من أحكام لم يكن معمولا بها، وما قننه من أحكام كان معمولاً بها ولكن نصوص التقنين القديم كانت تقصر عن تأديتها.

1- ما استحدث التقنين الجديد من أحكام لم يكن معمولا بها من قبل

استحدث التقنين الجديد موضوعات كاملة ومسائل تفصيلية متنوعة.

أ- موضوعات كاملة:
  • المؤسسات (م 69-80): أدخل القانون الجديد نظام المؤسسات كشخص اعتبارى يقوم على تخصيص مال لغرض لا ينطوى على ربح مادى، وهو نظام أكثر مرونة من نظام الوقف.
  • الإعسار المدنى (م 249 – 264): نظم التقنين الجديد الإعسار تنظيماً يراعي مصلحة الدائن والمدين معاً، ويكفل التوفيق بين جميع المصالح المتعارضة.
  • حوالة الدين (م 315 – 322): أضاف التقنين الجديد إلى حوالة الحق حوالة الدين، جرياً على سنن التقنينات الحديثة والفقه الإسلامي، وهو ما لم يكن التقنين القديم يعرفه.
  • تصفية التركة (م 876 – 914): وضع التقنين الجديد نصوصاً مفصلة لتنظيم تصفية التركة، متلافياً بذلك نقصاً خطيراً في التقنين القديم الذي أقر قاعدة "لا تركة إلا بعد سداد الدين" دون وضع نظام لتطبيقها.
ب- مسائل تفصيلية متنوعة:
  • في الباب التمهيدى: عددت المادة الأولى مصادر القانون، وذكرت الفقه الإسلامى من بينها.
  • في الكتاب الأول (الالتزامات):
    • استحدث نظرية الحوادث الطارئة (م 147)، ومسئولية عديم التمييز (م 164)، ومسئولية مبنية على خطأ مفروض عن الآلات الميكانيكية (م 178).
    • خفض السعر القانونى والاتفاقي للفوائد وفرض قيوداً عليها (م 226-232).
    • جعل الحوالة تتم دون حاجة إلى رضاء المدين (م 303)، خلافاً للتقنين الوطني القديم.
    • جعل الإبراء يتم بإرادة الدائن وحدها (م 371).
    • جعل مدة التقادم ثلاث سنوات للالتزامات غير التعاقدية وللحق في إبطال العقد.
  • في الكتاب الثانى (العقود المسماة):
    • جعل دعوى ضمان العيوب الخفية فى البيع لا تسقط إلا بسنة كاملة (م 452).
    • حرم بيع الوفاء تحريماً باتاً (م 465).
    • عدل من كيفية تقدير نصيب الشريك بعمله في الربح والخسارة (م 514).
    • ألغى عينية عقود القرض والعارية والوديعة ورهن الحيازة، وجعلها رضائية.
    • استحدث حكماً يسمح للمدين في عقد القرض بإلغاء العقد بعد ستة أشهر ورد ما اقترضه (م 544).
    • جعل التزام المؤجر التزاماً إيجابياً بتمكين المستأجر من الانتفاع (م 588).
  • في الكتاب الثالث (الحقوق العينية الأصلية):
    • وضع قواعد لإدارة المال الشائع تعطي الحكم للأغلبية (م 828، 829، 832).
    • أدخل نظامين جديدين هما ملكية الأسرة (م 851-855) واتحاد ملاك طبقات البناء الواحد (م 862-869).
    • اشترط فيمن يحيى الأرض الموات أن يكون مصرياً (م 874).
    • عالج حالات الالتصاق بحلول جديدة توازن بين مصالح الأطراف (م 925، 928).
    • ضيق من حق الأخذ بالشفعة وأحاطه بقيود جديدة (م 939، 940، 942، 943، 948).
  • في الكتاب الرابع (التأمينات العينية):
    • عالج رهن الحصة الشائعة بما يطمئن المرتهن على ضمانه (م 1039).
    • أجاز للدائن طالب التطهير طلب بيع العقار دون الاضطرار لزيادة العشر (م 1067).
    • قلل من عيوب حق الاختصاص (م 1085، 1094، 1089).
    • أوجد حق امتياز للمقاولين والمهندسين المعماريين (م 1148).

2- ما قنن التقنين الجديد من أحكام كان معمولا بها من قبل

هذه الأحكام طائفتان: أحكام أقرها القضاء المصري دون نص، وأحكام كانت منصوصاً عليها ولكن النصوص كانت معيبة أو في غير مكانها.

أ- الأحكام التى قررها القضاء المصرى فى ظل التقنين القديم دون نص فقننها التقنين الجديد:

انتفع التقنين الجديد انتفاعاً كبيراً بالقضاء المصرى السابق وقنن المبادئ الهامة التى أقرها هذا القضاء، والتي تبلغ أكثر من نصف نصوص التقنين الجديد.

  • في الباب التمهيدى: وردت نصوص صريحة فى نظرية التعسف فى استعمال الحق وفى الأشخاص الطبيعية والاعتبارية وفى الجمعيات.
  • في نظرية الالتزام: نقل عن القضاء المصرى كيف تتوافق الإرادتان، وكيف يتعاقد الغائبان، وأورد نصوصا صريحة فى مبادئ كان القضاء قد أقرها، كالنيابة فى التعاقد، والعقد الابتدائى، والعربون، والاستغلال، وإنقاص العقد، وتحويله، والخلف الخاص، وعقود الإذعان، والتعهد عن الغير، والدفع بعدم تنفيذ العقد، والوعد بجائزة، وعلاقة السببية في المسؤولية التقصيرية، والإثراء بلا سبب، والالتزام الطبيعي، والتهديد المالي، والخطأ المشترك، والشرط الجزائي، ودعوى الصورية.
  • في العقود المسماة: قنن أحكام القضاء في البيع بالتقسيط، وضمان صلاحية المبيع، وإدارة الشركة، ومسئولية المؤجر عن العيوب الخفية، وحريق العين المؤجرة، وأثر موت المستأجر، كما أورد عقوداً كاملة كان القضاء قد أقر مبادئها الأساسية، كعقد التزام المرافق العامة، وعقد العمل، وعقد التأمين.
  • في الحقوق العينية: نقل عن القضاء المصرى حقوق الجوار، والحائط المشترك، وشرط عدم التصرف، وكثيراً من أحكام الملكية الشائعة، والقسمة، والتصرفات الصادرة فى مرض الموت، وتزاحم الشفعاء.
  • في التأمينات العينية: نقل أحكام القضاء المصرى فى شرط تملك الرهن عند عدم الوفاء، ونزول الدائن المرتهن عن مرتبته، والحائز للعقار المرهون، ورهن الدين رهن حيازة، وترتيب حقوق الامتياز.
ب- الأحكام التى كانت تقوم على نص تشريعى:
  • نصوص كانت معيبة فهذبت: هذب التقنين الجديد نصوصاً معيبة كانت في التقنين القديم تتعلق بتقسيم الأشياء، والغلط، والسبب، والبطلان، والاشتراط لمصلحة الغير، ومسئولية المكلف بالرقابة والمتبوع، ودفع غير المستحق، والفضالة، والدعوى غير المباشرة والبوليصية، والحق في الحبس، والتضامن، والمقاصة، ووقف التقادم، والبيع في مرض الموت، وعقد المقاولة، والحراسة، وقيود الملكية، والحيازة، وحق الارتفاق.
  • نصوص كانت فى مكان آخر فنقلت إلى التقنين المدنى: نقل التقنين الجديد نصوصاً إلى مكانها الصحيح، مثل مصادر القانون (من لائحة المحاكم)، وأحكام الأهلية والهبة وإيجار الوقف والحكر (من الفقه الإسلامي)، وأحكام العرض الحقيقي والإيداع والحوالة وإجراءات حق الاختصاص (من تقنين المرافعات)، وقسمة المورث (من قانون الوصية)، والشفعة (من قانون خاص بها).

(4) الاتجاهات العامة للتقنين الجديد: موقف التقنين الجديد من الاتجاهات العامة للتقنينات الحديثة - التقنين الجديد بين الاستقرار والتطور، وبين الفرد والجماعة

أ- موقف التقنين الجديد من الاتجاهات العامة للتقنينات الحديثة

يمكن رد الاتجاهات العامة للتقنينات الحديثة إلى اتجاهين رئيسيين:

  1. مدى التسليم بمبدأ سلطان الإرادة.
  2. مقدار النزعة الذاتية مقابل النزعة الموضوعية، وتأثير ذلك على:
    • تصوير الالتزام (شخصي أم مادي).
    • التعبير عن الإرادة (باطنة أم ظاهرة).
    • حظ التصرف المجرد.

التقنين المصرى الجديد، في صورته النهائية، قد انحاز إلى النظام اللاتينى، مع تأثره ببعض النزعات الجرمانية بالقدر الذي تأثرت به القوانين اللاتينية ذاتها. فلم يخرج التقنين الجديد على تقاليده اللاتينية، بل بقى محتفظا بها.

  • 1- مبدأ سلطان الإرادة:
    • وقف التقنين الجديد من مبدأ سلطان الإرادة موقفاً معتدلا.
    • استبقى القيود التي كان التقنين القديم يرسمها (كالعقود الشكلية والنظام العام والآداب).
    • استحدث قيودا جديدة طاوع فيها التطور الاجتماعى والاقتصادى، وسجل في بعضها ما وصل إليه القضاء المصري.
    • قيد سلطان الإرادة عند تكوين العقد (بتوسيع نطاق الغبن، وتنظيم عقود الإذعان) وعند تنفيذه (بنظرية الحوادث الطارئة).
  • ب - النظرية الشخصية والنظرية المادية للالتزام:
    • وقف التقنين الجديد موقف الاعتدال، فسجل ما تم من تطور نحو المذهب المادي بحكم تأثر النظريات اللاتينية بالنظريات الجرمانية.
    • استبقى التطبيقات القديمة للمذهب المادي (حوالة الحق، الاشتراط لمصلحة شخص مستقبل).
    • سجل التطورات الحديثة فنظم إلى جانب حوالة الحق حوالة الدين، ونص على الوعد بجائزة.
    • لم يهجر المذهب الشخصي، فلا يزال الالتزام رابطة بين شخصين، ويقوم على الإرادة المشتركة، وتتسرب منه العوامل النفسية.
  • ج – نظرية الإرادة الباطنة ونظرية الإرادة الظاهرة:
    • الأصل عند التقنين الجديد هو الأخذ بالإرادة الباطنة، ولكنه مع ذلك يأخذ بالإرادة الظاهرة إلى الحد الذي يقتضيه استقرار التعامل.
    • أخذ بالإرادة الظاهرة في تكوين العقد (عندما ينتج التعبير أثره عند اتصاله بعلم من وجه إليه، وفي حالة موت أو فقد أهلية من صدر منه التعبير، وفي أحكام الغلط والتدليس والإكراه) وفي تفسيره (في العقود التي تكون عبارتها واضحة).
    • أخذ بالإرادة الباطنة كقاعدة عامة في تكوين العقد (بمحصها من عيوب الإرادة والأخذ بنظرية السبب) وفي تفسيره (عندما تكون عبارات العقد غير واضحة).
  • د – التصرف المسبب والتصرف المجرد:
    • انحاز التقنين الجديد انحيازاً تاماً إلى مذهب التقنينات اللاتينية، فأخذ بنظرية السبب كما يأخذ بها القضاء الفرنسي: نظرية نفسية واسعة.
    • يستوجب أن يكون لكل التزام سببه، ويشترط أن يكون السبب مشروعاً، ولا يقر الالتزام المجرد إلا في حدود ضيقة وحالات معينة يقتضيها الاستقرار في التعامل.

2 - التقنين الجديد بين الاستقرار والتطور وبين الفرد والجماعة

طابع التقنين الجديد هو الاعتدال، فيتخذ سبيله قواماً بين الاستقرار والتطور، وبين الفرد والجماعة.

  • 1 - التقنين الجديد بين الاستقرار والتطور:
    • عوامل التطور:
      • المعايير المرنة: استبدل التقنين الجديد القواعد الجامدة بمعايير مرنة (كمعيار الغلط الجوهري، والتدليس الجسيم) تتيح للقاضي الملاءمة بين ظروف كل قضية والحل القانوني المناسب لها.
      • سلطة القاضي التقديرية: أعطى التقنين الجديد للقاضي سلطة تقديرية واسعة، تصل في بعض الحالات إلى استكمال ما فات المتعاقدين الاتفاق عليه، بل وتعديل ما تم الاتفاق عليه (كما في حالات الاستغلال، إنقاص العقد الباطل جزئياً، الحوادث الطارئة، عقود الإذعان، والشرط الجزائي).
    • عوامل الاستقرار:
      • المعايير الموضوعية: أكثر التقنين الجديد من اتخاذ المعايير الموضوعية (كمعيار "عناية الشخص المعتاد") التي تجمع بين مرونة المعيار وثبات القاعدة، لإيجاد نوع من التعادل بين التطور والاستقرار.
      • الإرادة الظاهرة: أخذ التقنين الجديد في بعض الحالات بالإرادة الظاهرة دون الإرادة الباطنة توخياً لاستقرار التعامل.
  • ب - التقنين الجديد بين الفرد والجماعة:
    • حماية الفرد: لم يقصر التقنين الجديد في حماية الفرد، فأقر مبدأ سلطان الإرادة في نطاق العقد (مع القيود المذكورة)، واستبقى الملكية الفردية وحماها من الاعتداء.
    • حماية الجماعة: يتماشى القانون الجديد مع روح عصره، ففي نطاق العقد، قيد سلطان الإرادة لمصلحة الجماعة وحماية الجانب الضعيف (في عقود الإذعان، الاستغلال، الحوادث الطارئة، عقد العمل، عقد التأمين، وأحكام الفوائد). وفي نطاق الملكية، جعلها وظيفة اجتماعية أكثر منها حقاً فردياً، فأوجب على المالك ألا يغلو في استعمال حقه إلى حد يضر بملك الجار، وأورد سلسلة من القيود على حق الملكية تبرز فكرة التضامن الاجتماعي.

الكتاب الأول من القانون المدني الجديد: الالتزامات بوجه عام

كلمة تمهيدية في التعريف بالالتزام

1 - تحديد مركز الالتزام فى القانون المدنى

  • أقسام القانون المدنى: ينقسم القانون المدنى إلى قسمين رئيسين: قسم الأحوال الشخصية وقسم المعاملات. قواعد الأحوال الشخصية تنظم علاقة الفرد بأسرته، وقواعد المعاملات تنظم علاقة الفرد بغيره من حيث المال. والمال فى نظر القانون يتكون من حقوق.
  • الحق فى المعاملات: هو مصلحة ذات قيمة مالية يقرها القانون للفرد، وهو إما حق عينى أو حق شخصى. والحق الشخصى هو الالتزام: ويسمى حقاً إذا نظر إليه من جهة الدائن، وديناً إذا نظر إليه من جهة المدين.
  • الحق العينى والحق الشخصى: الحق العينى هو سلطة معينة يعطيها القانون لشخص معين على شىء معين. أما الحق الشخصى فهو رابطة مابين شخصين، دائن ومدين، يخول الدائن بمقتضاها مطالبة المدين بإعطاء شىء أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل.
  • بقاء التمييز قائماً: يبقى التمييز ما بين الحق الشخصى والحق العيني قائماً بأهميته. فالحق العيني سلطة مباشرة للشخص على الشيء، والحق الشخصي رابطة مابين شخصين.
  • نتائج هذا التمييز: تترتب عليه نتيجتان هامتان:
    1. لصاحب الحق العيني حق تتبع هذا الشيء (droit de suite) في يد أي شخص انتقلت إليه ملكيته.
    2. له أيضاً حق التقدم على جميع الدائنين الشخصيين في تقاضى حقه من الشيء (droit de preference)، إذا كان الحق العيني حق ضمان كالرهن.

2 - المذهبان الشخصي والمادي في الالتزام

  • الرابطة القانونية: يقوم الحق الشخصى، أي الالتزام، على رابطة قانونية ما بين الدائن والمدين. وقد تطورت هذه الرابطة من سلطة على جسم المدين إلى سلطة على ماله.
  • المذهب الشخصي: يرى أن الأمر الجوهري في الالتزام هو أنه رابطة شخصية فيما بين الدائن والمدين.
  • المذهب المادي: ينظر إلى محل الالتزام باعتباره العنصر الأساسي فيه، ويجرده من الرابطة الشخصية، فيصبح الالتزام عنصراً مالياً أكثر منه علاقة شخصية.
  • النتائج العملية للمذهب المادي:
    • يسهل تصور تغير أشخاص الالتزام، ليس فقط من دائن إلى آخر (حوالة الحق)، بل أيضاً من مدين إلى آخر (حوالة الدين).
    • يمكن تصور وجود التزام دون دائن وقت نشوئه، كما في حالة الوعد بجائزة، والاشتراط لمصلحة الغير، والسند لحامله.
  • تقرير المذهبين: التقنين المدني الجديد، إذا كان قد أخذ من المذهب المادي نتائج علمية هامة، لم يهجر في الوقت ذاته المذهب الشخصي، بل استبقاه في كثير من آثاره.

3 – اختيار تعريف للالتزام

  • التعريف المقترح: "الالتزام حالة قانونية يرتبط بمقتضاها شخص معين بنقل حق عيني أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل". هذا التعريف يبرز أن للالتزام ناحية مادية وشخصية، وأنه ليس ضرورياً وجود الدائن منذ نشوء الالتزام.

4 – أهمية نظرية الالتزام وتأثرها بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والأدبية

  • أهمية النظرية: نظرية الالتزام هي بمثابة العمود الفقري للقانون المدني والقانون بوجه عام.
  • تطور النظرية: تطورت نظرية الالتزام تطوراً كبيراً منذ عهد الرومان، متأثرة بعوامل اجتماعية واقتصادية وأدبية.
    • العوامل الاجتماعية: أثرت النظريات الاشتراكية في نظرية الالتزام، كما يظهر في تنظيم عقد العمل، وبناء قوة الإلزام في العقد على التضامن الاجتماعي، وتنظيم عقود الإذعان، وتوسع نظرية الغبن.
    • العوامل الاقتصادية: أدت سرعة تداول المال إلى بروز المذهب المادي للالتزام، كما أدى استعمال الآلات الميكانيكية إلى تأسيس المسئولية على الخطأ المفروض ونظرية تحمل التبعة، واتساع نطاق عقد التأمين.
    • العوامل الأدبية: تأثيرها قديم ويظهر في نظريات مثل الغش يفسد العقود، والتعسف في استعمال الحق، ومبدأ عدم مخالفة الآداب والنظام العام، والالتزامات الطبيعية، ومصادر الالتزام غير التعاقدية.

مصادر الحق

مقدمة في ترتيب مصادر الالتزام

  • تعريف مصدر الالتزام: هو السبب القانونين الذي أنشأ الالتزام.
  • الترتيب التقليدي: تذكر القوانين اللاتينية عادة خمسة مصادر: العقد، شبه العقد، الجريمة، شبه الجريمة، والقانون.
  • نقد الترتيب التقليدي: انتقد هذا الترتيب لعدم أهمية التمييز بين الجريمة وشبه الجريمة، ولكون مصطلح "شبه العقد" مضللاً وغير دقيق.
  • الترتيب الحديث: استقرت التقنينات والفقه الحديث على خمسة مصادر: العقد، الإرادة المنفردة، العمل غير المشروع، الإثراء بلا سبب، والقانون.
  • التقنين المدني الجديد: لم يورد نصاً خاصاً يقر فيه أي ترتيب معين، بل اقتصر على عرض مصادر الالتزام المختلفة في فصول متعاقبة بالترتيب الحديث.
  • أساس علمي لترتيب مصادر الحقوق: يمكن إرجاع جميع مصادر الروابط القانونية إلى "الواقعة القانونية" (fait juridique)، التي تكون إما طبيعية (faits naturels) أو اختيارية (faits volontaires). والوقائع الاختيارية إما أعمال مادية (actes materiels) أو أعمال قانونية (actes juridiques). والأعمال القانونية إما صادرة من جانب واحد (actes unilateraux) أو من جانبين (العقد).

الباب الأول: العقد

تمهيد

1 – تعريف العقد

  • الاتفاق والعقد: يميز بعض الفقهاء بين الاتفاق (convention) الذي يشمل إنشاء أو نقل أو تعديل أو إنهاء الالتزام، والعقد (contrat) الذي يقتصر على إنشاء أو نقل الالتزام.
  • لا أهمية للتمييز: لا يرى الكاتب أهمية لهذا التمييز، ويعرف العقد بأنه توافق إرادتين على إحداث اثر قانونين سواء كان هذا الأثر هو إنشاء التزام أو نقله أو تعديله أو إنهاؤه.
  • وجوب الاتفاق على إحداث اثر قانوني: المهم في العقد أن يكون هناك اتفاق على إحداث اثر قانوني، فإذا لم يكن المراد ذلك (كما في المجاملات الاجتماعية)، فليس هناك عقد بالمعنى القانوني.
  • تحديد منطقة العقد: يجب أن يقع الاتفاق في نطاق القانون الخاص وفي دائرة المعاملات المالية ليعتبر عقداً.

2 - مبدأ سلطان الإرادة (Autonomie de la Volonte)

  • عرض عام للمبدأ: يذهب أنصار هذا المبدأ إلى أن الإرادة لها السلطان الأكبر في تكوين العقد وفي الآثار التي تترتب عليه.
  • نشأة المبدأ: لم يعترف به القانون الروماني كاملاً، حيث كانت العقود شكلية. تطور المبدأ في العصور الوسطى تحت تأثير المبادئ الدينية، وإحياء القانون الروماني، والعوامل الاقتصادية والسياسية، وبلغ أوجه في القرن الثامن عشر مع انتشار المذهب الفردي.
  • مدى وصول المبدأ: أصبح يشتمل على أصلين: (1) كل الالتزامات ترجع في مصدرها إلى الإرادة الحرة، (2) الإرادة هي المرجع الأعلى فيما يترتب على الالتزامات من آثار.
  • انتكاص المبدأ: مع تطور النظم الاقتصادية وظهور المذاهب الاشتراكية، انتكص مبدأ سلطان الإرادة، حيث أن الإرادة وحدها لا تكفي، بل هناك اعتبارات اجتماعية للثبات والاستقرار والثقة.
  • الوضع الحالي: يعترف القانون الحديث بسلطان الإرادة ولكن يحصره في دائرة معقولة تتوازن فيها الإرادة مع العدالة والصالح العام.

3 - تقسيم العقود

  • من حيث التكوين: رضائى، شكلى، عينى.
  • من حيث الموضوع: مسمى، غير مسمى، بسيط، مختلط.
  • من حيث الأثر: ملزم للجانبين، ملزم لجانب واحد، عقد معاوضة، عقد تبرع.
  • من حيث الطبيعة: محدد، احتمالى، فورى، زمنى.

الفصل الأول: أركان العقد

يقوم العقد على ركنين: التراضي والسبب، أما المحل فهو ركن في الالتزام. نبحث في: 1) التراضي، 2) المحل، 3) السبب، 4) البطلان.

الفرع الأول: التراضي

يوجد التراضي بوجود إرادتين متوافقتين، ويجب أن تكونا صحيحتين.

المبحث الأول: وجود التراضي

  • التراضي هو تطابق إرادتين: نصت المادة 89 من القانون المدني الجديد على أن العقد يتم بمجرد أن يتبادل طرفان التعبير عن إرادتين متطابقتين.
  • التعبير عن الإرادة: قد يصدر من الأصيل أو من نائب عنه.
    • التعبير الصريح والضمني: التعبير عن الإرادة يكون باللفظ والكتابة والإشارة المتداولة عرفاً، أو باتخاذ موقف لا تدع ظروف الحال شكاً في دلالته. ويجوز أن يكون ضمنياً ما لم ينص القانون أو الاتفاق على أن يكون صريحاً.
    • الإرادة الباطنة والظاهرة: القانون الجديد، مع أخذه بالإرادة الباطنة كأصل، انحرف قليلاً نحو الإرادة الظاهرة لكفالة الاستقرار في التعامل.
    • أثر التعبير: ينتج التعبير عن الإرادة أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه. وموت من صدر منه التعبير أو فقد أهليته قبل أن ينتج التعبير أثره لا يمنع من ترتب هذا الأثر عند اتصال التعبير بعلم من وجه إليه.
  • النيابة في العقد: هي حلول إرادة النائب محل إرادة الأصيل مع انصراف الأثر القانوني إلى شخص الأصيل.
    • شروطها: (1) حلول إرادة النائب محل إرادة الأصيل. (2) أن تجري إرادة النائب في الحدود المرسومة للنيابة. (3) أن يكون التعامل باسم الأصيل.
    • آثارها: تتولد علاقة مباشرة فيما بين الأصيل والغير، ويختفي شخص النائب من بينهما.
    • تعاقد الشخص مع نفسه: لا يجوز لشخص أن يتعاقد مع نفسه باسم من ينوب عنه، سواء كان التعاقد لحسابه أو لحساب شخص آخر، دون ترخيص من الأصيل.

المبحث الثاني: توافق الإرادتين

  • المتعاقدان في مجلس واحد:
    • الإيجاب: يمر بمراحل المفاوضات، ثم قد يكون معلقاً، ثم يصبح باتاً.
    • القوة الملزمة للإيجاب: الإيجاب المقترن بميعاد للقبول ملزم للموجب حتى ينقضي هذا الميعاد.
    • سقوط الإيجاب: يسقط الإيجاب الملزم إذا رفضه الموجب له أو انقضت مدته. ويسقط الإيجاب غير الملزم إذا عدل عنه الموجب أو انفض مجلس العقد.
    • مجلس العقد: إذا صدر الإيجاب في مجلس العقد دون تعيين ميعاد، يتحلل الموجب من إيجابه إذا لم يصدر القبول فوراً، إلا إذا لم يوجد ما يدل على عدوله وصدر القبول قبل انفضاض المجلس.
  • التعاقد بين الغائبين:
    • زمان ومكان العقد: يعتبر التعاقد ما بين الغائبين قد تم في المكان والزمان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول، ما لم يوجد اتفاق أو نص قانوني يقضي بغير ذلك. ويفترض أن الموجب قد علم بالقبول في المكان والزمان اللذان وصل إليه فيهما هذا القبول.
  • حالات خاصة في القبول:
    • السكوت: لا ينسب لساكت قول، ولكن يعتبر السكوت قبولا إذا أحاطت به ظروف ملابسة تجعله يدل على الرضاء (كالتعامل السابق بين الطرفين، أو إذا تمحض الإيجاب لمنفعة من وجه إليه).
    • عقود المزاد: لا يتم العقد في المزايدات إلا برسو المزاد.
    • عقود الإذعان: القبول فيها يقتصر على مجرد التسليم بشروط مقررة يضعها الموجب ولا يقبل مناقشة فيها.

المبحث الثالث: مرحلة تمهيدية في التعاقد

  • الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي: الاتفاق الذي يعد بموجبه كلا المتعاقدين أو أحدهما بإبرام عقد معين في المستقبل لا ينعقد، إلا إذا عينت جميع المسائل الجوهرية للعقد المراد إبرامه، والمدة التي يجب إبرامه فيها. إذا نكل الواعد، وقاضاه المتعاقد الآخر، قام الحكم مقام العقد متى حاز قوة الشيء المقضي به.
  • العربون: دفع العربون وقت إبرام العقد يفيد أن لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه، إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك. فإذا عدل من دفع العربون فقده، وإذا عدل من قبضه، رد ضعفه.

المبحث الرابع: صحة التراضي

التراضي لا يكون صحيحاً إلا إذا كان صادراً من ذي أهلية ولم تكن إرادة أحد المتعاقدين مشوبة بعيب (الغلط، التدليس، الإكراه، الاستغلال).

  • الأهلية:
    • القانون الجديد: عرض لأحكام الأهلية بالتفصيل، موحداً إياها لجميع المصريين في كثير من الجوانب.
    • أدوار الأهلية:
      • الصبي غير المميز (تحت 7 سنوات): ليس له حق التصرف في ماله، وتكون جميع تصرفاته باطلة.
      • الصبي المميز (7-21 سنة): تصرفاته المالية صحيحة متى كانت نافعة نفعاً محضاً، وباطلة متى كانت ضارة ضرراً محضاً. أما التصرفات الدائرة بين النفع والضرر فتكون قابلة للإبطال لمصلحته.
      • البالغ الرشيد (21 سنة ميلادية كاملة): يكون كامل الأهلية لمباشرة حقوقه المدنية ما لم يحجر عليه.
    • عوارض الأهلية (الجنون، العته، الغفلة، السفه):
      • المجنون والمعتوه: يقع باطلاً تصرفهما إذا صدر بعد تسجيل قرار الحجر. أما قبله، فلا يكون باطلاً إلا إذا كانت حالة الجنون أو العته شائعة وقت التعاقد أو كان الطرف الآخر على بينة منها.
      • ذو الغفلة والسفيه: تصرفاتهما بعد تسجيل قرار الحجر يسري عليها ما يسري على تصرفات الصبي المميز. أما قبل التسجيل، فلا تكون باطلة أو قابلة للإبطال إلا إذا كانت نتيجة استغلال أو تواطؤ.
  • عيوب الإرادة:
    • الغلط: هو توهم غير الواقع. يجوز إبطال العقد إذا وقع المتعاقد في غلط جوهري، وكان المتعاقد الآخر قد وقع مثله في الغلط، أو كان على علم به، أو كان من السهل عليه أن يتبينه.
    • التدليس: هو إيقاع المتعاقد في غلط يدفعه إلى التعاقد. يجوز إبطال العقد للتدليس إذا كانت الحيل التي لجأ إليها أحد المتعاقدين أو نائبه من الجسامة بحيث لولاها لما أبرم الطرف الثاني العقد.
    • الإكراه: هو ضغط تتأثر به إرادة الشخص فيندفع إلى التعاقد. يجوز إبطال العقد للإكراه إذا تعاقد شخص تحت سلطان رهبة بعثها المتعاقد الآخر في نفسه دون حق وكانت قائمة على أساس.
    • الاستغلال: إذا كانت التزامات أحد المتعاقدين لا تتعادل البتة مع ما حصل عليه من فائدة، وتبين أن المتعاقد المغبون لم يبرم العقد إلا لأن المتعاقد الآخر قد استغل فيه طيشاً بيناً أو هوى جامحاً، جاز للقاضي أن يبطل العقد أو ينقص التزامات هذا المتعاقد.

```

© جميع الحقوق محفوظة. 2025 بوابة القوانين فى دولة الكويت